إذا بدك تعرف قضية فلسطين من أولها لآخرتها _ ولو أنه آخرتها بعدها ما بيّنت_ روح زور بيت أبو صفيه، بيتهم متحف كامل مكمّل بحكي عن النكبه، بحكي عن الجغرافيه والتاريخ، بحكي عن المكان والزمان، عن البشر والحجر، عن الناس والطيور والأرانب، بحكي عن الدين والدنيا، بحكي عن الظلم وبحكي أكثر عن العداله الغايبه.
من أغرب الأشياء في قضية فلسطين هو موضوع اللاجئين، مش لأنه اللاجئين الفلسطينيين صرلهم 70 سنه مهجرين، وعلى طول التاريخ والجغرافيه الأرضية عمرنا ما سمعنا عن لاجئين استمر لجوؤهم هذا العمر الممتد على الزمن والجغرافيه والتاريخ.
في كل مره بتصادف 13 أيلول/ سبتمبر بنذكر حياة سيدي وموته المفاجئ، وهذا التاريخ هو تاريخ التوقيع على اتفاقية اوسلو.
يوم توقيع اتفاق اوسلو كان عمي غنايم جايب صحن لاقط للقنوات الفضائيه جديد، وكلنا اجتمعنا في الصالون عنده نشوف توقيع اتفاقية اوسلو في حديقة البيت الأبيض، ومن كثر ما حكى عمى نواف عن الموضوع كلنا عطلنا اشغالنا وأعمالنا وقعدنا نشوف حفل توقيع اتفاقية اوسلو في حديقة البيت الأبيض، حياة سيدي صالح ما كان تقريبا فاهم الموضوع مزبوط، عمّي نواف جابه من الطابق الأول على دار عمّي غنايم علشان يشوف فصل جديد من فصول تاريخ القضيه الفلسطينيه بنكتب حي وعلى الهواء مباشره، هو بصراحة من لحظة ما صار الحكي عن اعتراف منظمة التحرير بأنه فلسطين تصلح لدولتين وهو مزاجه تعكر وصار عصبي ومتشائم وأمله بلّش يصغر لحد ما صار مثل حبة السمسم.
سيدي بعد ما شاف وسمع اللي صار في واشنطن، حكى كلام كثير ما فهنا منه إشي غير المسبات، تقريباً ما خلى حدا ما سب عليه، ونزل على غرفته وطال الصندوق الأسود تاعه، احنا كنا نسميه الصندوق الأسود لأنه كل أسراره موجوده فيه، واسراره بالمناسبه هاي مش أسرار بالمعنى العسكري او الإقتصادي بس من أهميتها البالغه..
المهم جاب الصندوق الأسود وصار ينادي بأعلى صوته علينا كلنا، نزلنا وكان منفعل كثير، فتح الصندوق، والله شفته أنا انه كان يبكي، طال منه اوراق كثيره وحطهم في نص الحاكوره، ومن بينهم طال صوره أبو عمار وهو على كتفة باروده، وطال مفتاح دارهم بحيفا، وكواشين الدار والأراضي اللي لأبوه، وحطهم كلهم في وسط الحاكوره وطلب من عمتي عايده تجيب كاز، إحنا بجد ما كنا عارفين اللّي بدور في راسه كنا بعدنا منتشين من فرحة توقيع اتفاقيات اوسلو اللي قالوا عنها في خطاباتهم وتحليلات الخبراء والمعلقين انها رح تنهي الصراع العربي الإسرائيلي مره واحده وإلى الأبد، وطبعا ترجّع الحقوق المغتصبه لأهلها واللاجئين يرجعوا على بلادهم، ومن هذا الحكي، بس سيدي صالح كعادته ما كانت تغريه الكلمات ولا بريق الصور، دار كاز على كل إشي وكان بده يولع فيهم، ستي هجمت عليه وحلفته بالنبي انه بس يعطيها الكواشين والمفتاح، وهو ولع عود الكبيرت وتركلها المجال تنقذ الكواشين ومفتاح الدار، وبعدها ولع في الصندوق الأسود ومحتوياته.
كانت الدنيا بلشت تغرب، والدنيا لا هي برد ولا شوب، يعني الشتاء بيطل علينا من ورا الباب وجايب معه برداته، ظل سيدي واقف قدام النار وكانت النار منعكسه بعيونه بتلمع بعد ما دموعه اعطتهم لمعه، وفضل واقف قدام النار حتى صار كل إشي رماد.
فات على غرفته وسكر على حاله الباب، أنا وأولاد عمامي ما كنا عارفين شو اللي صار، لكن أبوي واعمامي كانوا مبسوطين من اللي صار في واشنطن، وسيدي قلبها دراما، بس كنا متعاطفين مع سيدي أكثر من أي إشي ثاني.
ظليت أنا وأولاد أعمامي نلعب برماد النار الباقي رغم أنه كان في جمر كثير تحت الرماد، سمعت صوته من جوا بنادي عليه، وأنا من يوم يومي متعلق بسيدي صالح، وبرد عليه أكثر من ما برد على أبوي، فتحت باب غرفته كان صار نايم في السرير وستي جنبه على طرف السرير، ناداني وقال روح نادي أولاد أعمامك كلهم، لما جينا كان سيدي صار مستلقي على ظهره والحزن معبي وجهه وروحه ما حكي كلام كثير، بس اعطاني الكواشين واعطى المفتاح لأبن عمي موفق وقال كلمتين بس "هاي اعز إشي عندي، خليهم معكم ديروا بالكم عليهم، رح ييجي يوم يلزموكم، طبعا ما كان عنا كلام نحكيه ولا هو كان بدّه يسمع منّا أو من غيرنا شيء، ستي غَطته باللحاف وقلت:
_خلّي سيدكم ينام.
أنا بحكي عن نفسي كنت وقتها صغير ومش فاهم شو اللي بصير، ما كنت بفرق بين اوسو واتفاقيلتها ولا بين القواشين ولا المفتاح.
أذّن العصر، واستغرب الجميع ليش سيدي ما راح يصلي في الجامع، ستي راحت تصحيه، شافته غاطط في النوم تركته يرتاح شوي، بس لمّا أذن المغرب وما طلع يصلي على الجامع، رحت أنا دقيت الباب عليه، بس هو ما رد، ناديت ستي وسألتها عن سيدي ليش ما برد.
إكرام الميت دفنه، هي العباره الوحيده اللي كل الناس رددتها، وما رضيوا يخلو سيدي يبات في الدار ليله وحده ثانيه، لأنه حسب رأيهم اكرام الميت دفنه.
مات سيدي بنفس الليله اللي وقع فيها أبو مازن وشمعون بيرز اتفاقية اوسلو، مات مقهور، عمّي قال أنه لا مقهور ولا حاجه، عمره المكتوب خلص والله يتولاه، أنا ما صدقت أنه عمره كان مكتوب، وانه يموت بهاي الطريقه لأنه امبارح وبمثل هذا الوقت كنت أنا وياه في الحسبه كنا نبحث على كبينه جديده علشان يشتريها حتى يشغل عليها إبن عمّي وليد ينقل خضره من الحسبه للمخيم والقرى المجاوره.