الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

لننزع الآن فَتيلَ مواجهة أخرى/ بقلم: عبدالرحيم الحسن[1]

2016-09-17 08:50:56 PM
لننزع الآن فَتيلَ مواجهة أخرى/ بقلم: عبدالرحيم الحسن[1]
عبد الرحييم الحسن

 

 

يتجلى الخير في البشرية في حقيقة أن حوالي 7.5 مليار نسمة لا يزالون على قيد الحياة رغم ما يجتاح العالم من تجويع وسفك للدماء؛ نتيجة غَلبة الشر واستفحاله بدايةً في شخص ما ومن ثم امتداده إلى جماعة، فدولة، فعدة دول أو ما يعرف بالحِلف. وغالباً ما تنطلق شرارة هذا الشر بِفِعل نزعة أنانية تتطور مع الوقت إلى فساد فاستبداد وصولاً إلى ممارسة الحرمان غير المشروع و/أو السلب والقهر وحتى ضرب الرقاب. أما سرعة استفحال الشر والقدرة على لجمه فتعتمدان بلا شك على مدى قوة الحق بين أهله ومدى الاستعداد لمواجهة الشر باليد أو اللسان أو القلب، وذلك "أضعف الآيمان".

 

على المستوى الفلسطيني، نلمس مدى تجذُّر النزعة الخيرة في مجتمعنا من خلال ما نسمع ونرى أو نمارس من مد يد العون لفقراء ومحتاجين دون قيد أو شرط. وتتجلى نزعة العطاء والخير تلك بأروع صورها في مواقف لا بد أن كثيرين قد تعرضوا لها بينما كانوا في مكان ما، وشاهدوا طفل ينظر إلى حلوى أو طعام في يد طفل آخر؛ وما يلي ذلك من قيام ذوي الطفل الأخير بالطلب أو الإيحاء لطفلهم بتقاسم ما بيده وصولاً لقيام شخصٍ ما بشراء قطعة حلوى أو طعام موازية وتقديمها للطفل غير المقتدر؛ وذلك على الرغم من أن ذاك الطفل، وبحكم تواجده في ذلك المكان، قد لا يكون معرضاً لنفس درجة البؤس والحرمان التي يعيشها أبناء وذوي 38.8% [2] من القوى العاملة (في القطاع الخاص) جرّاء منحها أجراً يقل عن الحد الأدنى للأجور المعتمد بقرار مجلس الوزراء رقم (11) لسنة 2012 [3] في 09/10/2012.

 

لا مجال إلا أن يتملكنا بالغ القلق لارتفاع هذه النسبة بعد مرور حوالي أربع سنوات على اعتماد الحد الأدنى للأجور، الذي يعتبر أصلاً محدوداً جداً من وجهة نظر كثيرين ممن طالبوا بضرورة العمل على زيادته بشكل يكفي لتلبية متطلبات العيش الكريم. كما تتفاقم حدة القلق تلك جرّاء عدم بث أية أنباء (حتى الآن) حول نية الحكومة تكثيف العمل على تطبيق قرار مجلس الوزراء المذكور قبل اعتماد مسودة توافقية معدلة للقرار بقانون الخاص بالضمان الاجتماعي، خاصةً وأن الفقرة 1– ب من المادة رقم 43 من القرار بقانون رقم (6) بشأن الضمان الاجتماعي قد نصت على وجوب "ألا يقل الحد الأدنى للأجر الخاضع للتأمينات عن الحد الأدنى للأجور"، ما يعني تلقائياً أن كل من يقل دخله عن الحد الأدنى للأجور لن يتمتع بمزايا الحماية الاجتماعية التي يوفرها قانون الضمان الاجتماعي، الذي يعتبر بلا أدنى أشك أحد أهم القوانين التي لا نزال نترقب صدورها بالشمولية اللازمة بعد طول انتظار.

 

تفادياً لعواقب اننظار مزيد من السنوات حتى نرى فلسطين خالية من أي قصور في التطبيق، خاصةً في ظل ضخامة الفئة التي ينهشها الفقر، علينا مناشدة الحكومة لاعتبار هذه القضية ضرورة مُلحّة تستوجب اتخاذ إجراءات عاجلة لتطبيق قرار مجلس الوزراء المذكور، بدءاً بحملة توعية شاملة بالحد الأدنى للأجور البالغ 1,450 شيقل شهرياً  و 65 شيقل يومياً (لعمال المياومة والعاملين بشكل يومي غير منتظم، إضافة إلى العمال الموسميين) و 8.5 شيقل لساعة العمل الواحدة (للعمال الذي يعملون على أساس الساعة). لِنُباشر في جهود التوعية اللازمة على قاعدة أن كثيرين لا يعلمون بشأن هذه النسبة المرعبة ولا حتى بشأن مقدار الحد الأدنى للأجور، بمن فيهم عاملون يجهلون ذلك بسبب انشغالهم جسدياً وفكرياً بكيفية تأمين لقمة العيش وأبسط احتياجاتهم الأساسية أو جرّاء عدم مطالبتهم بحقهم لخوفهم من خسارة الفتات الذي يعني الكثير لأبنائهم وذويهم و/أو بسبب اعتقادهم بمدى صعوبة تحصيل مستحقاتهم وتعويضاتهم القانونية (في حال تسريحهم)، وما إلى ذلك من الأسباب أو الاحتمالات التي يتعين علينا جميعا العمل على حصرها ومعالجتها جذرياً؛ كي نتوقف عن تعريض أنفسنا لأذى البُؤس الناجم عن عدم الالتزام بالحد الأدنى للأجور سواء من ناحية التعرض لأذاه فعلياً و/أو بسبب رؤية البُؤس الناجم عنه في عيون أبرياء.

 

يجب أن نتذكر أن أي منا لا يقبل مجرد التفكير بالتعرض لبعض مما يعانيه أطفال وذوي 38.8% من القوى العاملة في القطاع الخاص. هل يستطيع أي منا تحمل مسؤولية دور مباشر أو غير مباشر في حِرمان وبُؤس تلك الفئة؟ إن رفضنا التلقائي لمجرد تخيُّل ذلك يشكل دليلاً على مدى تجذٌّر الخير في آدميتنا، والذي يتجلى بأروع صوره في رغبتنا بتحقيق الأفضل من خلال حماية أنفسنا وأحبتنا والمحيطيين بنا فشعبنا ككل من التعرض للحرمان والبؤس، وصولاً إلى حب الخير للجميع، دون الإجحاف بحق أي كان للسعي لتحقيق الأفضل شريطة أن لا يلحق ذلك السعي بالغير أي بُؤس أو حرمان.

 

تطبيق الحد الأدنى للأجور من زاوية الربح والخسارة

لِنُعجّل في تطبيق قرار مجلس الوزراء المذكور لما سيترتب على تطبيقه من خير للجميع، خاصةً الحكومة التي ستستفيد بلا أدنى شك من جباية المزيد من الضرائب التي ستتأتى جراء الإزدياد الحتمي في الإنفاق (على السلع والخدمات) لدى العاملين الذين ستزداد أجورهم بعد تطبيق الحد الأدنى للأجور؛ ذلك أن الخزينة العامة ستتقاضى 16% من ثمن كل سلعة أو خدمة سيقومون بشرائها بالإضافة إلى ضريبة دخل تتراوح في نسبتها بين 5 إلى 15% من أرباح المصنع أو الشركة أو المنشأة التي تُنتج و/أو تستورد وتوزع و/أو تُصَدّر أو تبيع أية خدمة أو سلعة ما.

 

أما أرباب العمل الذين سيضطرون إلى دفع مزيد من الأجور لتكريس التزامهم بالحد الأدنى للأجور، من المتوقع أن ينعكس ذلك إيجاباً عليهم جراء ارتفاع مستوى ربحيتهم مع التحسن الذي سيطرأ على نوعية وكمية ما ينتجون بفعل ازدياد الحرفية والدقة المترتبة على ازدياد انتماء وولاء العالمين بعد ارتفاع دخلهم عند تطبيق الحد الأدنى للأجور. كما أنه من المتوقع أن تزداد أرباحهم أيضاً نتيحة ارتفاع الطلب على المنتجات بفعل الحراك الاقتصادي الناتج عن ازدياد إنفاق العاملين على سلع وخدمات ينتجها نفس أصحاب العمل أو حتى أصحاب عمل آخرين، الأمر الذي سيسهم في زيادة الإنفاق الحكومي جراء ازدياد تحصيل الضرائب سالفة الذكر. وسيشعر المعنيون من أصحاب العمل براحة الضمير نتيجة شعورهم بأنهم لم يعودوا سبباً (منذ بدء التزامهم بالحد الأدنى للأجور) في بُؤس وحرمان أخوة لهم بدليل عملهم وفق أحكام قرار مجلس الوزراء رقم 11 لسنة 2012.

 

بالنسبة لأولئك العاملين، لا شك بأنهم سينعمون مع تراجع حدة العوز بعد حصولهم على الحد الأدنى للأجور؛ لكن ما لا يقل عن ذلك أهمية هو مقدار الفائدة التي سينعم بها المجتمع والاقتصاد ككل جراء ازدياد تِعداد بُناتهما بِفعل تعاظم شُعور الجميع بالأمن الاجتماعي– الاقتصادي، الأمر الذي سيترتب عليه ازدياد موازي في مدى شعور الجميع بالسعادة، والتي سنلمسها بأشكال عدة من بينها الشعور بامتنان هذه الفئة لأصحاب العمل والمجتمع ككل وصولاً إلى تدني انتشار معدلات الجرائم والجُنَح المرتبطة بالفقر.

 

أما نحن جميعاً، فلا يخفى علينا مقدار الفائدة التي سننعم بها ولو حتى على قاعدة "أضعف الآيمان"، خاصةً من حيث احترامنا للذات عند حصولنا على براءة ذاتية ومجتمعية من وصمة "الشيطان الأخرس" التي سَيوسَم بها كل من اختار الصمت بعد أن أصبح يعلم بأنه قد أصبح مسؤولاً ولو بشكل غير مباشر جراء سكوته عن حق أصيل لهذه الفئة في عيش كريم. علينا التقدم بالشكر إلى هذه الفئة لأنها لم تهُب في وجهنا حتى الآن لتُحاسبنا على نُكران أو عدم الإنحياز إلى حقها المشروع في الحد الأدنى من الأجر الذي يمكنها من تلبية أبسط متطلبات العيش الكريم. ولنتذكر، وستنفعنا الذكرى، بأن نزعة الخير فينا توجب التصدي للشّر ولَعن كل شيطان، حتى وإن كان أخرساً؛ كي لا نُحاكَم يوماً بتهمة التسبب في البؤس والحرمان الذي "لا يزال" يتعرض له أبناء وذوي حوالي 38.8% من القوى العاملة في القطاع الخاص الفلسطيني.

 

[1]  تعبر هذه المقالة عن رأي الكاتب حصراً، وتسلط الضوء على تبعات إحدى أبرز القضايا التي تم تناولها سابقاً بعنوان "الضمان الاجتماعي المنتظر، الجزء الأول: ما بين الفرص الكامنة وخيبة الأمل".

[2]  الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2016. مسح القوى العاملة: دورة (كانون ثاني – آذار، 2016)، الربع الأول 2016، تقرير صحفي لنتائج مسح القوى العاملة. رام الله– فلسطين. (صفحة 6).

[3]  http://muqtafi.birzeit.edu/pg/getleg.asp?id=16472