يلاحظ المتتبع للحركة الأدبية الفلسطينية منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا مدى ارتباط الحركة الأدبية بالحركة الصحفية في فلسطين، ذلك أن الصحافة هي القناة التي تُنقل من خلالها إبداعات الأدباء إلى المتلقين والقراء، وهذا يعني أن ازدهار الحركة الصحفية، سيشجع بالتأكيد على ازدهار الإبداعات الأدبية، لأن هذه الإبداعات ستجد طريقها إلى القارئ وهذا ما يطمح إليه الأديب، لا بل إنك وأنت تتبع تاريخ هاتين الحركتين ستجد أن الكثير من الصحف، أو معظمها، رأت النور على يد أدباء لهم مكانتهم الأدبية واحترامهم، وبذلك توحّد إبداع الأديب وعطاء الصحفي في نفس السياق.
أقول ذلك وأنا أستذكر التاريخ المشترك للصحافة والأدب، منذ أواخر العهد العثماني، وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين. فإن أولى الجرائد التي صدرت في فلسطين هي جريدة (القدس الشريف)، وكان ذلك عام 1876م باللغتين العربية والتركية، وقد رَأَسَ القسم العربي الأديب الشيخ علي الريماوي، وفي عام 1911م صدرت في يافا جريدة (فلسطين) التي استمرت في الصدور حتى العام 1967 ، وقد أصدرها آنذاك الكاتب داود العيسى، وساعده الكاتب يوسف العيسى، مروراً بجريدة (الدفاع) التي صدرت في يافا أيضاً عام 1934م وكانت ناطقة باسم (حزب الاستقلال)، ولكنها استقطبت عدداً من كبار الأدباء والشعراء العرب من بينهم خير الدين الزركلي من سوريا، والشاعران عبد الكريم الكرمي وإبراهيم طوقان من فلسطين. وبعد ذلك صدرت مجلة (الأفق الجديد) عام 1961م في القدس، وكان لها دور في تقديم بعض الأدباء والشعراء إلى القارئ الفلسطيني والعربي، منهم: يحيى يخلف، محمود شقير، صبحي الشحروري، ماجد أبو شرار، عز الدين المناصرة، أبو خالد البطراوي وغيرهم.
أستذكر هذا التاريخ، بالكثير من الإجلال، دون أن أنسى الإشارة إلى ملاحظتي الخاصة، ومعايشتي الشخصية للحركة الأدبية وعلاقتها بالصحافة، منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي وحتى الآن. حيث يمكنني أنْ أزعم ـ أو أشهد ـ أنَّ العلاقة بينهما كانت علاقة عضوية قائمة على مبدأ التأثر والتأثير.
فعلى صعيد الصحف، فإن أبرز الصحف التي كانت تصدر في السبعينيات وحتى الثمانينيات كانت تلك التي تصدر في مدينة القدس، وهي: جريدة (القدس) وجريدة (الفجر) التي كان لها دور مميز في رعاية الحركة الأدبية، وذلك بجهود طيبة من الشاعر المرحوم علي الخليلي الذي كان يشرف على القسم الأدبي فيها، وجريدة (الشعب) بالإضافة إلى جريدة (الاتحاد) التي كانت تصدر في حيفا، والتي نشر فمن خلالها الكثير من الأدباء في الضفة والقطاع والداخل الفلسطيني نتاجاتهم، ومن هؤلاء الكاتب الكبير إميل حبيبي والشاعر الكبير سميح القاسم.
أما على مستوى المجلات، فقد صدرت في القدس مجلة (البيادر)، ومجلة (الفجر الأدبي) والتي صدرت على شكل مطوية كملحق أدبي لجريدة (الفجر) سرعان ما تحولت إلى مجلة أدبية شاملة، ومجلة (الكاتب) التي كان يرأس تحريرها الشاعر أسعد الأسعد، وكان لكل من هذه المجلات كتابها، وكان من الكتاب والشعراء من ينشر نتاجه في جميع هذه المجلات. كما ظهرت واختفت بسرعة النيزك أو تكاد مجلات أخرى كانت أقل تأثيراً، مع احترامنا لما قدمته من إنجازات. وفي حيفا كانت تصدر مجلة (الجديد) التي استقطبت الكثير من الأقلام ومن أصحاب هذه الأقلام الكاتب المرحوم سلمان ناطور على سبيل المثال.
إن الدارس لأعداد تلك الصحف والمجلات يرى كم كان لهذه الصحف والمجلات من مساهمة وتأثير في دعم الحركة الأدبية ونشر نتاجات الأدباء وأخبارهم، وذلك من خلال الأسماء التي مازال بعض أصحابها يأخذون مكانتهم باقتدار على الساحة الأدبية الفلسطينية، ولن أتجشم هنا العناء بذكر بعض الأسماء.
غير أن الحال، وللأسف قد تبدل منذ أوائل هذا القرن، أي القرن الحادي والعشرين، فعلى الرغم من أن الصحف قد ازداد عدد صفحاتها، التي بدأت تتلألأ بألوان قوس قزح، إلا أن اهتمامها بالحركة الأدبية قد قل، واهتمام الأدباء وقراء الأدب بها في المقابل قد تضاءل، وذلك لأسباب متعددة ولا مجال لذكرها الآن. أما المجلات فظني أنها انقرضت أو أوشكت على الانقراض، وأن ما يصدر منها بين الفينة والفينة عن هذه المؤسسة أو تلك، فمع احترامنا لأهميتها ولجهود القائمين عليها، فإنها هي أقرب إلى الكتب الأكاديمية منها إلى المجلات التي تنقل نتاجات المبدعين وأخبارهم وآرائهم إلى جمهور المثقفين، وذلك من خلال استقطاب هؤلاء المبدعين ومحاورتهم ومساعدتهم على صقل مواهبهم وتطوير إبداعاتهم ونشرها.
وبعد هذا، فإنه لا يسعني في هذه العجالة إلا أن أتساءل: ترى هل يعود ذلك الزمان الذي كان فيه للصحافة دورها في نشر الأدب والاهتمام بالمبدعين؟