بتأجيل النطق بالحكم بشأن الإنتخابات المحلية، أسدلت محكمة العدل العليا الستار نهائيا على إمكانية عقدها في عموم الوطن، وبالتمعن في مسوغات قرارها، فقد أسست المحكمة لاستحالة عقد أي انتخابات على المستوى الوطني، سواءً كانت محلية أو تشريعية، وربما حتى رئاسية.
أعتقد أن قرار المحكمة بحيثياته يعتبر تدخلا في الشأن السياسي، وبقدر قداسة عدم التدخل في القضاء بصفته أحدة أعمدة الدولة الأساسية، فإن عدم تدخل القضاء في الشأن السياسي لا يقل قداسة. قد كان الأولى بالمحكمة اقتصار رأيها وحكمها على ما يوفره المتخاصمون من حجج ووقائع قانونية دامغة تدعم رأي كلا منهم، بدل الغوص في متاهة الأمر الواقع.
لا يقتصر قرار الإلغاء على التبعات الإدارية واللوجستية الخاصة بلجنة الإنتخابات والحكومة وجميع البلدات المشمولة في الإنتخابات، فهناك قائمة طويلة من الخاسرين والرابحين،
أول الخاسرين هو بلا شك مبدأ التداول السلمي للسلطة، الذي يعتبر أحد أهم أعمدة النظام الديمقراطي، والذي يرتكز أساساً على دورية الانتخابات الديمقراطية. وبإسدال الستار على الإنتخابات، تتكرس السلطات في الموقع المختلفة كسلطات مطلقة، ويتحلل ممارسوها من المساءلة، ويُفتح الباب على مصراعية للعمل على قاعدة "السلطة المطلقة، مفسدة مطبقة".
ثاني الخاسرين هو محكمة العدل العليا التي أُقحمت في صراع سياسي وفصائلي، وتساوقت مع رغبات وأهواء من لم تعجبهم حسابات البيدر، ومهدت لتُستخدم جسرا للعبور الى بر أمان تكريس الأمر الواقع، وإبقاء القديم على قدمه.
ثالث الخاسرين هو لجنة الانتخابات المركزية ونظام انتخابات القوائم، التي تعاملت بسذاجة مع واقع الإنقسام وأثره على استقلاليتها وقدرتها على إدارة العملية الانتخابية بعيدا عن التجاذبات وفوقها، ولم تراعي الحساسيات السياسية ودورها في خلط أوراق قراراتها، خاصة بما يتعلق بقبول أو رفض قوائم المترشحين.
رابع الخاسرين هو وزير الحكم المحلي الذي ورط النظام السياسي والحكومة بقرار عقد الإنتخابات دون أن يستبق ذلك بعقد المشاورات المناسبة ويستشرف عمق وتعدد الإنقسامات على مستوى الوطن، ما بين فتح وحماس، وداخل الأطر الحركية، ولم ينتبه الى عمق العلاقات والانتماءات العشائرية والقبلية التي أثرت وستؤثر دائما في آلية اختيار المرشحين.
خامس الخاسرين هو جيش المتنافسين على المقاعد، الذين استقال معظمهم وأقيل بعضهم من مواقعهم كمتطلب للترشح أو بسببه، والآن بعد طي صفحة الانتخابات، بقي هؤلاء معلقون ما بين قانونية الإستقالات/الإقالات، وبطلان الدواعي والسبب. وتكمن المعضلة بأنه لا يوجد أي نص قانوني يعالج موضوع العودة عن الإستقالات وشروطها، على الرغم من أن قرارات الإقالة التي صدرت بحق بعض كوادر حركة فتح قابلة للطعن في المحكمة الحركية، وبإمكان من أصدرها أن يقوم بإلغائها لانتفاء مسبباتها.
سادس الخاسرين هو الجمهور والقطاع الخاص، فقد تحولت المجالس البلدية الى مجالس تسيير أعمال، بما يعني ذلك من النزعة الى تمويت الأعمال وعدم اتخاذ القرارات التي تمس حياة ومصالح المواطنين، بانتظار إعلان النتائج وتنصيب مجالس بلدية جديدة. أما القطاع الخاص، فقد استثمر في التحضيرات المختلفة للعملية الإنتخابية، ووقع العقود مع المرشحين، ثم وجد نفسه خارج المسرح بين ليلة وضحاها. ويجب أن لا نفاجأ بأن العديد من المصالح التجارية الصغيرة قد تفلس وتغلق أبوابها بسبب ذلك.
أما بالنسبة للرابحين، فيأتي في مقدمتهم غول الإنقسام ومروجيه والمستثمرون فيه. حيث اعتقد السواد الأعظم بأن خطوة الانتخابات المحلية لتجديد شرعية مزودي الخدمات ستحظى بمباركة حركتي فتح وحماس وباقي الفصائل نظرا لطبيعتها وأهدافها ونتائجها المتوقعة، وعدم تعارض ذلك مع ما يسمى بتقسيمات ال “Status Quo” السياسية. وأغفل الجميع قراءة الجبهة الداخلية لكل معسكر، وتوقعاته من عقدها، ومعاني الفوز والخسارة بالنسبة لمواقفه ومواقعه.
وثاني الرابحين هو حركة حماس التي كرست وزنها كصاحبة فيتو مؤثر في كل الشأن الفلسطيني وليس فقط الشأن السياسي، ليس فقط في قطاع غزة حيث كرست نظامها السياسي والإقتصادي والإجتماعي، وإنما في الضفة الغربية على الرغم من كل محاولات لجم نموها وتأثيرها، فقد كانت اللاعب الأهم ربما، على الرغم من غيابها عن المسرح، وتمكنت في العديد من المواقع من صياغة تحالفات انتخابية مع خصمها الألد حركة فتح. ليس هذا فقط، بل عرضت نفسها كمتضرر من كل ما يجري في حديقة الشرعية من مد وجزر في هذا المجال.
وثالث الرابحين هم كوادر حركة فتح في الميدان وفي المؤسسات الحركية القيادية، حيث لم يُستقبل قرار عقد الإنتخابات المحلية بارتياح، وأُعلن مرارا وجهارا بأن الحركة ليست جاهزة لهذه "المغامرة" قبل ترتيب البيت الحركي وعقد المصالحات المطلوبة لضمان وحدة الموقف، وعقد المؤتمر السابع وانتخاب قيادة جديدة للحركة. لقد تنفس هؤلاء الصعداء ورحبوا بقرار محكمة العدل العليا، واعتبروه انتصارا لهم، بعد أن لم يتمكنوا من إسماع صوتهم.
ماذا بعد، أعتقد أنه يتوجب على الحكومة التدخل ورفع الحرج عن قمة الهرم السياسي، خاصة في ظل ما يشاع بأن قرار محكمة العدل العليا لم يكون سوى مسرحية ومنصة لإلغاء الإنتخابات نتيجة لتدخلات خارجية وضغوط لتأجيلها لمغازيها السياسيةمحليا وفي الجوار، ويمكن أن يتم ذلك بتفعيل الفقرة -2 (مادة 2) من القرار بقانون رقم (8) لسنة 2012م بشأن تعديل قانون انتخاب مجالس الهيئات المحلية رقم (10) لسنة 2005م، والتي تنص على أنه "في حال تعذر إجراء انتخابات المجالس ....، يجوز لمجلس الوزراء إصدار قرار بإجراء الانتخابات على مراحل وفق ما تقتضيه المصلحة العامة". على أن يتقرن ذلك بإصدار قرار التدرج في عقدها، بدءً بجميع المجالس التي كان من المفروض أن تفوز بالتزكية.
*عضو المجلس الثوري لحركة فتح