السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"كليلة ودمنة" في فلسطين والكل غائب- رولا سرحان

2016-09-24 02:23:14 PM
رولا سرحان

 

حين جاءت وجلست بقربي أمسكتُ بيدها وضغطتُ عليها بقوة لأني لم أتمكن وسط قاعة العرض من أن أقف لأُعانقها، فالعرضُ ما زال مستمراً.

 

كان ذلك بالأمس بعد أول ظهورٍ لريم تلحمي في العرض المسرحي كليلة ودمنة، والذي يُعرضُ لأول مرةٍ في فلسطين في معهد إدوارد سعيد للموسيقى، بعد أن تم إطلاق العمل على أقدم مسارح مدينة "إكس أون بروفونس" في الجنوب الفرنسي.

 

ريم تؤدي دور الملكة الأم، والدة الملك دبشليم، الذي يقوم بدوره الفنان التونسي محمد الجبالي، في إطار عمل إبداعي متكامل ألف موسيقاه ولحنها الفلسطيني منعم عدوان، والذي يلعب دور دمنة في العمل وهو مستشار السوء أو الصديق غير الصدوق للملك. 

 

العمل هو للروح والعقل معاً، متجسداً في الحركات الإبداعية لفنانين قادمين من واقعٍ عربي مأزوم تفجر بسبب تلك الهوة السحيقة ما بين الحاكم والمحكوم.

 

تلك العلاقة، التي تحكمها علاقات القربُ والبعد عن الملك حين يبدأ ذلك الصراع الوجداني العنيف داخل دمنة، الذي يريد أن يهدم صوتَ الضمير وصوت العقل وصوت الحكمة المتمثل في الشاعر شطربة، الذي أضاء نوراً داخل الملك ليحكم شعبه بالعدل.

 

تلك العلاقة تُسلط الضوء، على مستشاري السوء، وعلى دور المثقف في المجتمع، وعلى آليات صناعةِ القرار في عالمنا العربي، وعلى الأيادي التي تريدُ أن تهدم بدلاً من أن تبني الوطن.

 

منعم عدوان، في مشهد مؤثر، يتمزق حقداً بينما هو يغني وفي أعلى طبقات صوته النائح الأنيني المعروف عنه يصرخ "لا ما بتركن رفقة"، في إشارة إلى أنه سيعمل على إثارةِ الفتنة والشك في صدر الملك تجاه أي شيء يقوله شطربة من شأنه أن يحسن الأحوال في البلاد.

 

"كليلة ودمنة" عمل إبداعي على درجة حرفية فنية عالية. وإن كنتُ أعتبره عملاً نوعياً من أعمال المسرح الغنائي إلا أني لا أتفق مع  اعتبار أنه أوبرا، نظراً لعدم توفر عناصر أساسية مميزة للعمل الأوبرالي عما قدم؛ فحتى الآن لم يستطع العالم العربي أن ينتج عملاً أوبرالياً شرقياً وفق المفهوم المتعارف عليه فنياً لمفهوم الأوبرا.

 

ورغم أني لم أشاهد بعد العمل الأخير للموسيقي مارون الراعي، لكن المشاهد الأولية المنشورة عبر اليوتيوب تقول بأن لبنان قد شهد إطلاق أول أوبرا باللغة العربية مقدماً قصة عنتر وعبلة.

 

عمل "كليلة ودمنة"، باعتباره مسرحية غنائية، -وإن تضمن الكثير من حروف وحركات الأوبرا وإخراج النغمة باللهجة الأوبرالية بالصدى والرنين المتعارف عليهما- فإن الأمر لا ينتقصُ من قيمةِ العمل شيئاً. وهو يذكرك لوهلة بالأعمال المسرحية الغنائية اللبنانية، ربما لأنها الأكثر شهرةً ونضوجاً عربيا، إلى أن تأخذك كليلة ودمنة، وسريعاً نحو طابعٍ خاصٍ بها يستفيدُ من تكثيفِ أدوار الشخوص، والتسارعُ الإنساني للحبكة المنسجم مع الفكرة الموسيقية التي تحملُ العمل، وتُقلِّبُ حواراتٍ فيها إسقاطات سياسية على واقع الحال عربيا، فلا يتركك تغادر مكانك لساعةٍ ونصف دون أن تنهي العمل بكلمة أخيرةٍ عن الحرية.

 

العمل يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن الفنان الفلسطيني، قادرٌ على الابداع متى توفرت له الظروف المناسبة، ومتى وفرت له المؤسسة ُالرسمية دعمها وكانت جادةً في خدمته.

 

في هذا العمل ستُشاهد الفلسطيني كما لم تره من قبل، سيتجلى الفلسطيني المبدع.

 

في أول ظهور لريم، ستسألُ نفسك، إن كنتَ تعرِفُ ريم قبلاً أم لا؟

 

هي هنا خارجَ المألوف الطربي عنها، والمألوف المسرحي فلسطينيا.

 

طربياً، فكت ريم شيفرةَ الحنجرة والصوت، أمسكت الطبقات الصعبة بقوة حبال حنجرة مثقفة طربياً.

 

ريم تجلت طربياً، ومن ثم تجلت تمثيليا في دور الملكة الأم، كأنها خرجت من نص مسرحي لشكسبير بأداء تعبيري عالٍ.

 

نضوج الملحن في التعامل مع النص والموسيقى كوحدة واحدة، يؤكد أن رفح الساحلية، لم يكن ينقصها إلا أن تحمل منعم نحو الإبداع، وأن تحملهُ فلسطين الوطن احتفاءً به.

 

كلُّ التجلي لمنعم عدوان وريم تلحمي كان في غياب الحضور، والمثقف، والمثقفين، والمؤسسة الرسمية ممثلة بوزارة الثقافة.

 

هذا ما كان يجول في خاطري في اللحظات الأخيرة.

 

انتهى العمل.

 

أُضيأت الأنوار.

 

التفتُ إلى ريم تلحمي، عيونها مليئة بدموعٍ صافية كقلبها، عانقتها حينها.

 

منذ سنواتٍ طويلةِ لم أستمتعِ بعملٍ فني، كما حدث معي بالأمس.