كنت قد بدأت أشعر بالارتياح في هذا الماء المخدّر، كل آلام الأمس، كل الركض، المشي الذي بلا نهاية، النوم على سرير حجري لمئة عام ربما، كل ذلك بدأ يتلاشى، اكتسيت بشعور غامر بالحيوية، صرت أشبه الماء لولا بعض شوائبي، استحضرت لحظات بعيدة، موغلة في البعد، ذكريات غائرة تحوّلت لمنحوتات رطبة في نفسي، صار بإمكاني الآن أن أنتزعها، إذ أصبحت طريّة بفعل الماء، نزلت مياه رحم أمي فوثبت الى الحياة، ووثبت هي الى بطن الغياب، غابت من حيّزي سريعاً دون تفاصيل مقنعة لقلب طفل، فجأة يصبح ثوبها فارغاً منها، وتختفي رائحتها عن ملابسي، ويتلاشى صوتها ويحلّ مكانه أنين قلبي الذي لا ينقطع، قد أكون أنا السبب في غيابها، لن أعرف أبداً، تذكرت وجه جدّي، ملمس شفتيه تجسّان جبيني ليلاً، أصابعه الخشنة تنسحب من يدي ويوارى في الحفرة، ما اسمه، لا أذكر، كنت لأول مرة أشاهد حفرة الموت، رائحة البخور تتطاير في السماء الآن والمسك يغسل جدران ذاكرتي، بكيت، نزل ماء على وجنتي، ماء مالح جداً، كان بإمكانه أن يملّح ماء البركة، لكنه طاهر أيضاً، لا شيء يسرق من هذه البركة عذوبتها، يبدو أن التراب حولها امتص كل شوائبها، كان الماء عذباً جداً، عذباً بطريقة تبعث على الفرح، يمدّني بشباب لا يجف، ولا ينضب نبعه، مثل قنديل المشرّب بالعذوبة، بدا لي أن هذه البركة ابنة مياه أعمق وأعرق نسباً، وكأن بحيرة كبيرة سكنت عمق هذا الحوض المقدّس، وتراكمت حول الحوض نسقاً بعد نسق أرواح ظامئة، للمرة الأولى سأشرب الماء من فم الأرض، تذكرت عطشي الشديد المكسور بشاي مر، غرفت غرفةً بيدي وشربت من هذه البركة، شعور مبهم، غريب، وكأن الماء وحدني بلحظة معه ومع الأشياء كلها، مع قنديل أيضاً، مع خشب ذاك القارب المبتل، هو مثلي كان يشرب حدّ الإرتواء ، انطفأ ظمئي، أصبح بيننا جميعاً قرابة ماء، شربت كنبتة صحراوية تقدر قيمة القطرة العذبة، منذ قليل فقط، كان الكون كله محل شك وريبة، الآن يآلف الماء بيننا جميعاً، قلت لقنديل والماء يكسو وجهي ووجهه " حقاً، من شأن هذه البركة أن تطهّر العالم لو شاءت"
قال قنديل وهو يضحك للهفتي ووجهه يتلألأ
"أرأيت! هذا الماء، ماء أسطوري يا كنان، هو أقوى من مياه البحار، إنه يلتصق بأعضائك، أشدّها رهافة، كقرنية عينك مثلاً، كغشاء أنفك، أعصابك المحتقنة، لا شيء أقوى منه ولا شيء ألين منه في نفس الوقت، وهو يحبنا.."
"يحبنا الماء!"
" أجل هذه بركة ودودة تكره العزلة، هي تعشق العيون، تلك البرك المائية الصغيرة التي تحمل قدراً هائلاً من النور السائل، العيون تشبهها تماماً وهي تحب ذاتها، بدون تلك العيون قد تندثر البركة ويندثر الكون"
" كم كنت بحاجة للمجيء الى هنا!"
قلت له وأنا ألقي جسدي على الخشب الرطب
" وهنا تحديداً أنت قادر على التقاط لغة التخاطب بين الأشياء في الكون"
" أريدأن أكون حكيماً يا قنديل هل هذا سهل؟"
"سهل جداً، إذا لم تبحث عن الحكمة تجدها"
"وتقول إن ذلك سهل!"
"اسمع يا كنان، الحكيم يرغب في أن لا يرغب، ويتعلّم ما لا يعلّم"
"ماذا تفعل تلك الجميلة على الضفة الثانية يا قنديل"
قلت قاطعاً حديثه دون أن أقصد، وعينياي تلاحقانها، ثم تبيّنت ملامحها، إنها هي! لم أميز قبل ذلك كم هي ممشوقة القوام، تمشي على الجهة المقابلة بشعر طويل بندقي اللون منسدل حتى خصرها
" آه تقصد جورية إنها تستحم يومياً هناك"
قلت وأنا أشعر بحرارة مفاجئة
"تستحم في العراء؟ "
" الناس في ماميلا عبارة عن نفوس واضحة اللغة، شفافة كالماء، هي لا تقصد إثارة أحد، لو أرادت ذلك لعرفنا، إنها تتغزل بالطبيعة وحسب، لذلك هي تجذب الورود والمياه والغيوم، لا الرجال يا كنان، هي امرأة لديها حلم "
"بماذا تحلم؟ هل تقصّ علي حلم هذه الجميلة"
" إنها تريد أن تلد لحناً فريداً يخرج من رحم لحظة روحية صافية، لأن الإيقاع سيكون رفيعاً ونادراً، لذلك هي تحاول بلا كلل أن تستدل على إيقاعها العميق"
"لماذا؟"
" لأنها بهذه الحالة فقط ستخلق لحناً بإمكانه أن يخلخل ضجيج الحياة من أساساته"
" وما الذي يؤخرها عن تحقيق هذا الحلم وهي في مدينة صامتة كهذه؟"
" الإيقاع الخاص مستحيل والانسان مثقل بحمولته، عليها أن تتخلى عن كل أحمالها، وتكاد أن تفعل ذلك"
لم أكن قادراً على تمييز شيء من هذه المسافة، أية أحمال؟ أكانت عارية حقاً! لن أعرف من مكاني هذا، لكنها بدت منسجمة مع كل ما حولها، وكأنها جزء من لوحة عتيقة، وقد استراحت ألونها فوق بعضها البعض
"إنها تبحث عن حبيبها، هذا ما قالته"
"هذا ما سمعته أنت"
"ماذا تقصد؟"
نظر إلي دون أي إيماءة، ثم واصل التجديف، غريب أمرك يا جورية ، أتيت خارجة من حلم، حتى أنك كنت ترتدين منامة، والمفروض أن يخرج آدم من الحلم ليجد حواءه، أم أنني في غمرة حلم طويل معقّد! وكيف لرجل بعينين جائعتين كالمثبتتين برأسي أن تشيحا البصر عنك؟ وكيف يمكن أن يراك المرء مرتين فيدمن حضورك؟ أتحالفت مع الشيطان لتختبري إيماني أم ماذا؟ بك جاذبية لا للطبيعة وحسب بل للقلوب جميعها، كأن هنالك تراسلاً سحرياً بينك وبين العالم كله، وأنا أحسّ برعشة بين ضلوعي لم أختبرها من قبل، هذه هي تجربتي الأولى إذن، لم أفتن مرة واحدة في حياتي يا جورية فكيف وصلت إلي هنا! ولماذا! ليتني أستطيع أن أكون أقرب إليك..
"بماذا تفكّر"
"بها، إنها لا تغادر قلبي منذ رأتها عيناي، ولا أفهم هذا الأمر"
لم يعلّق، تركني أنبش عن إجابة وحدي، وكنت أفكر بالسباحة لأصل حيث تستحم تلك الجميلة، قد أسرق ملابسها، قد ألقي الورود في ماء البركة كطعم فتنزل إلي، لكنها مشغولة القلب، كان هو يتأملني بتركيز شديد، بعينيه الواسعتين المائيتين بالطبع، بدا لي وجهه من قريب وكأنه خمسيني، من بعيد كان يبدو أصغر سناً، أما من قريب فتعدّ ثلاث ثنيات تحت عينيه وترى خط شيب في جانبي الرأس
"كم عمرك؟"
" تسعمئة عام" قال وضحك، " بل ألف، لم أعد أحسب"
لا بد أنه يمزح " أنت تمزح، حتى أن لهجتك حديثة أكثر من لهجتي، كيف سترد الآن؟ " قلت مناكفاً، وبداخلي أرتجف من فكرة أن يكون محقاً
" لقد عايشت هنا الكثير من السياح، يأتون الى هذه البركة"
سياح أي سياح يا ترى لم تسح هنا نملة منذ حضرت
" ولي أذن تلتقط اللهجات واللغات، ثم بربك ما الفرق بين لغاتنا والماء، إنها منسابة ومتدفقة، وحتى في الأصوات الهامسة هنالك ماء"
لم أعلّق، تركت نفسي للخمول اللذيذ، ولصمت الماء وهو يصلي، وللطبيعة وهي تحاكي روح جورية، كان القارب يهدهدني كمهد مستعار من غرف الطفولة الموغلة في القدم، كيف يمكن لشيء طفولي أن يوغل في القدم، ويبقى صغيراً هكذا!
"ترى كم الساعة الآن ؟"
"مصمم أنت على طرح الأسئلة، اسمع يا كنان، الوقت هنا مائي وطري بعكس الوقت الجامد الذي كنت تحبس نفسك فيه، وقت يعيش بك أو بدونك هو قائم بذاته"
"وقت يعيش بي وبدوني؟"
"نعم، إنه الوقت الروحي، وهو يلغي أوقات الناس المقولبة والجامدة والسريعة الرتيبة، ويوقظ الزمن الروحي"
"زمن روحي؟ "
"أجل، زمن يتبع سجيته فقط، لا يعترف بالساعات، وتقسيمات البشر وتشريحهم العنيف لجسد الوقت، زمن يجري على طريقته الخاصة، هو اغتناء كامل يا صديقي" قال ذلك وقد بدأ المطر الذي هطل دون رعد وبرق يهدأ وحده، وكنت أتساءل مادامت الأوقات أبناء الزمن، هل يعني هذا أن أحد أبناء الزمن هو الوحيد القادر على تنبيه أبيه!لم أسأل قنديل وفضّلت أن أبحث بنفسي عن إجابة
"توقف المطر" قلت ولم يعلّق بل أكمل حديثه السابق
" الزمن الروحي، حياة من نمط خاص، هو بذاته روح، لكنه زمن زئبقي الطبع، لذلك هو سريع الاختفاء، يهرب منك حين تبدأ بالانغراز في الملذات الدنيوية المادية، أما الآن وهنا، فيحضر هذا النوع من الزمن الفريد بقوة، وينساب كما الموسيقى في أذن الكون"
"إذن لن أعرف هنا كم الساعة؟"
"مهما حاولت، هنا أنت تدرك الوقت إدراكاً، هنا أنت تعيشه، خرزات الزمن التي أخبرك عنها عابد تنتثر هنا كيفما تريد، قبل الموت تبدو الحياة للناس كمصفوفة معقدة يا كنان، ومفارقاتها عجيبة، فالماضي مكشوف لك لكن لا تستطيع أن تعود إليه بتاتاً، طريق باتجاه واحد مغلق وسريع الوقع، والمستقبل بالمقابل مجهول لك، لكن ليس لك إلا أن تسير باتجاهه"
"أنت على حق"
" ويحدث كثيراً أن تحاول أن تحمل معك شيئاً من الماضي، حين تكتشف لاحقاً أنه لا أكثر من حمولة زائدة، حمولة ممنوعة للمسافر للغد، وإن اخترت التمسك بحمولتك ومخالفة هذا القانون الطبيعي فلن تتقدم خطوة واحدة على هذا الطريق السريع، والأغرب أنك لن تبقى واقفاً في مكانك"
"لماذا" قلت ذلك وأنا أشعر أن كلمة حمولة تستفزني لسبب مجهول
" لأن قوى الماضي ستسحبك دون أن تطأ أرضها نهائياً، فكل ما فيها .."
"ميت" قلت مقاطعاً
" نعم، ميت، منتهي الصلاحية، لا يقبل التكرار، إلا لو افترضنا أن الزمن دائري! "