البدايات صعبةٌ دائماً، هي تحت مقصلة الملاحقة لتقفي أثر النشوء ونقطةِ الأصل التي يُبنى عليها الزمنُ وتتابعُ الأحداث. إدوارد سعيد يرى أن البدايةَ هي عرضة للمراجعة دوماً، وتتطلب بالضرورة نيةً قد تتحقق كلياً أو جزئياً، أو قد تعتبر فشلت فشلاً ذريعاً على التوالي. فما بالكم إن كانت تلك البدايات تريد أن تحكي شيئاً عن إدوارد سعيد.
السؤال الذي يلتبسُني بكثير من التردد كان محوره الدائم: كيف أكتُب عن إدوارد سعيد، من أين أبدأ الكتابة عن هذا الفلسطيني المتحرك باقيا بين الزمان والمنفى.
في ذكرى رحيله تجرأت قليلاً.
استذكرت كيف علمتُ بنبأ وفاته المزعج، كنت حينها في نيويورك، وكنتُ الفلسطينية الوحيدة على عشاء مع مجموعةٍ من الأشخاص الذين كان من بينهم موظفٌ في الخارجية الأمريكية. رن هاتفه فجأة، وحين أغلقه، إلتفت إلي وقال بلغة إنجليزية متعالية "مات إدوارد سعيد".
وقع علي الخبرُ بطيئا ومفاجئا، كسلحفاة تقع على رأسك من الطابق العاشر، لكنها لا تصيبُك بل تتركك مع هول التعايش مع الصدمة.
تمالكتُ نفسي وقلت له بتعالي الفلسطيني المغرور المعروف عنا: "طبيعي، كلنا سنموت، وسعيد كان سيموت يوما ما، لكن ما سيظل بعده، هو ما سيخلد سعيد، وهو ما جعل من سعيد مهما لدرجة أن تصلك مكالمة هاتفية عن وفاته، وأن تكون مسرورا لهذه الدرجة."
كنتُ أحاولُ أن أقنع نفسي، بالكلام الذي قلته طوال الفترة المتبقية من العشاء، كان كلام الأمريكي يفوحُ شماتةً، شعرتُ حينها أن جنسية إدوارد سعيد الأمريكية وسنوات عيشه في المنفى وتدريسه في جامعة كولمبيا لم تجعلهُ أبداً "رجلاً أبيض" وِفق ما يُعرفهُ سعيد، بل كان طوال الوقت "ملونا"، وأن تفاؤله الذي أبداهُ في حوار تلفزيوني بشأن الخصومة التقليدية بين "الأنا" والـ "هم" لا يمكن جسرها أو تخطيها.
وأن سعيد الذي عادى طوال حياته فكرة "الهويات القومية"، قد تم إصدارُ الحكم عليه من وجهة نظر انحيازية ضده، يخرجُ منها وحشٌ يقسم الإنسان إلى اثنين "أنا" و"أنت".
لم أستطع حينها، أن أكون "أنا" و "الآخر" الذي يجلسُ معي على ذات الطاولة سوى تجسيداً لتلك الهوة.
شعرتُ أني "إيمي فوستر" بطلة الرواية التي تحمل نفس الاسم لجوزيف كونراد، والتي يصفها سعيد في إحدى شروحاته بأنها ثقيلة وبليدة وغبية كبقرة في مقابل يانكو الأنيق الرشيق المتألق النظرات، مع أن إيمي كانت المقيمة، ويانكو كان المنفي.
لم يشغلني نبأ وفاة سعيد بالقدر الذي شغلني به فرح الأمريكي بوفاته.
كانت لدي رغبة في أن أصرخ في وجهه أو أن أقرِّعه.
كان ذلك قبل 13 عاماً، منذ ذلك الوقت إلى الآن ما زلتُ أُأَنبُ نفسي على دوراني في الغضب الهوياتي، وأني لم أفهم قصد إدوارد سعيد في شروحاته عن رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، والتي يرى فيها سعيد أنها تعالجُ فكرة الانتقام من الرجل الأبيض، لكنها تصل في النهاية إلى أن الانتقام هو أمرٌ بلا جدوى ومثير للشفقة، لأنه- كما يقولُ- يعزز دائرة العزلة كنقص في الهوية.
لم أفهم إلا بعد أن بتُّ أقرأ سعيد مراراً ومراراً لأفكك معنى الهوية والمنفى والمكان والآخر وأنا.
كنتُ وما زلتُ أريدُ أن أرى نفسي قبل أن أرى الآخر.