من الصعب أن تجد دولة في أيامنا هذه تقدّر الثقافة والعلوم حقّ قدرهما ، وتدرك ما للكتاب وسائر المنشورات المقروءة والمرئية والمسموعة من الأهمية ، ولا تعمل جاهدة على إنشاء مكتبة وطنية تكون مهمتها العمل على حفظ التراث الفكري الوطني لشعبها ، وذلك من خلال جمع وحفظ نُسَخ من جميع المطبوعات والمخطوطات والنتاجات الإبداعية والثقافية القديمة والمعاصرة التي أنجزها وينجزها أبناء هذا الشعب ـ سواء أكان ذلك داخل حدود الدولة أو خارجها ـ ويكون من مهمة هذه المكتبة أيضاً حفظ جميع ما يكتب وينتج عن الدولة في الخارج بمختلف اللغات ، كما يكون من ضمن هذه المهمة تطبيق نظام الإيداع القانوني للمصنفات ، والحدّ من فوضى النشر، وأخذ الدور المنوط بها في سبيل تطبيق قانون حق المؤلف .
ولم يكن من باب الصدفة أن سبع عشرة دولة عربية على الأقل ـ كما أعلم ـ من بين اثنتين وعشرين دولة ـ على الرغم مما يمكن أن يقال في الأنظمة ـ قد حققت هذا الاستحقاق الثقافي الوطني ، فقامت كل منها بتأسيس مكتبة وطنية للقطر الذي تعمل على إدارته .
ومن هنا ، فإنني أرى ، وترون معي ، أننا كشعب فلسطين أولى الناس بالحرص على تأسيس مكتبة وطنية فلسطينية لتقوم بمهامها التي توكل إليها بموجب القانون والأنظمة التي توضع لهذا الشأن ، ليس فقط لأننا نمتلك إرثاً ثقافياً وفكرياً يستحق الاحترام ، بل لأننا نواجه بفعل الصراع الذي يخوضه شعبنا منذ عشرات السنين من يعمل ـ بذكاء ـ على توظيف إرثنا الفكري والحضاري لخدمة أهدافه في هذا الصراع ، وأعني بذلك الحركة الصهيونية .
ويكفي للدلالة على هذا الأمر ، أن نستذكر أعمال نهب المكتبات الفلسطينية الخاصة والعامة أثناء النكبة ، والتي طالت عشرات الآلاف من الكتب ، التي تعود ملكيتها لكتاب وأدباء وعائلات فلسطينية ومؤسسات ومساجد وكنائس، ومنها المكتبة الخاصة بالأديب الفلسطيني الكبير خليل السكاكيني ، ومكتبة عائلة النشاشيبي في القدس الشريف ، حيث يوجد كنز مؤلف من ثمانية آلاف كتاب في ( المكتبة الوطنية الإسرائيلية ) تحمل اسم " ممتلكات متروكة " أو عبارة " القيّم على أملاك الغائبين " .
وقد تنبه بعض المثقفين الفلسطينيين لهذا الأمر ، وأعني تأسيس مكتبة وطنية فلسطينية ، وبناء على ذلك أصدر الرئيس ياسر عرفات ـ رحمه الله ـ في العام 1997 قراراً بإنشاء ( دار الكتب الوطنية الفلسطينية ) ، وَوَضَعَ حجر الأساس لها ـ كما علمت ـ في حي الرمال بمدينة غزة في 1/1/2000م ، ولكن يبدو أن ما تلا ذلك من الأحداث قد ألقى بظلاله على ديمومة العمل وتطور الفكرة .
ومع ذلك ، لم تبق الفكرة بعيدة عن وجدان وطموح المثقف الفلسطيني ، فقد صرح وزير الثقافة الدكتور إيهاب بسيسو مؤخراً أن وزارة الثقافة قدمت مسودة قانون لإنشاء مكتبة وطنية فلسطينية ، وأن الإجراء القانوني مستمر في مجلس الوزراء ، وأن الوزارة قد بحثت مع مسؤولين أردنيين ومغاربة ضرورة دعمهم لهذا المشروع .
إن الواجب الوطني ، والحس الثقافي ، يحتمان علينا أن نثمن كل توجه تم في الماضي ، أو يجري العمل بموجبه في الحاضر لإنجاز هذا الصرح الثقافي ليقوم بدوره المنتظر منه ، وإنني أعتبر هذه السطور جزءاً من التيار الثقافي العام الداعم لجهود الذين يعملون ضمن هذا التوجه ، ولكننا إلى جانب ذلك نتساءل عن السبب الذي يحول حتى الآن بيننا وبين أن نضع هذه الفكرة بالفعل موضع التنفيذ ، على الرغم من مرور اثنين وعشرين عاماً على تأسيس السلطة الفلسطينية ، تم خلالها بناء وإنشاء الكثير من المؤسسات ، حتى أعلنا ـ ونعلن ـ أننا قد أقمنا كافة المؤسسات اللازمة لتقوم الدولة من خلالها بأداء مهامها .
إننا نتمنى على أصحاب القرار أن يكون حرصهم على إقامة مؤسسات الدولة غير مقتصر على مؤسسات المال والأعمال ومؤسسات تسيير الاحتياجات اليومية الملحّة فقط ، بل أن يشمل ذلك مؤسسات الثقافة أيضاً ، ومن أهمها المكتبة الوطنية التي ينتظرها مثقفونا ومبدعونا باعتبارها صرحاً مادياً يجسد الكيان الثقافي الفلسطيني .
وبناء عليه ، فإن من غير الحكمة ـ إضافة إلى أنه من عدم الإنصاف ـ التراخي بشأن إنشاء ( المكتبة الوطنية ) والنظر إليها على أنها مؤسسة كمالية إذا أنشئت فذلك خير ، وإن لم تُنشأ فلا بواكي لها !