كنت قد أنهيت الجزء الأول من هذا المقال بجملة " الشرطية عقد عمل، الحب ايثار بلحن سماوي " ومن هذا الاختزال المكثف انطلق لايضاح بعض الصور المحيطة بنا حيث تتجلى بها العلاقات من النوعين السابق ذكرهما أعلاه .
العلاقات إن لم تكن بمعظمها فهي بغالبيتها شرطية، حتى تلك التي تسمى بالطفيلية فالمتطفل عليه لا بد وأنه مستأنس لذلك الفعل (عليه ) لأسباب تتعلق بكسله أو بطبيعته، لذلك ودون التعمق كثيراً بتلك الأسباب سأفترض أن العلاقات التطفلية هي أيضاً علاقات ذات قطبين خاضعين للشرطية الكونية.
للحديث عن الشرطية في أوسع صورها لا بد من الاستهلال بلغة العلم وبعض قوانينه الفيزيائية التي لا لبس فيها . دأبت قوانين الفيزياء على تثبيت حقيقة علمية مؤكدة بما يخص القوة و خواصها و خلصت إلى الجملة القانونية الشهيرة " لكل فعل رد فعل مساوي بالتأثير والقوة " و يبدو أن هذا القانون جزء أصيل من الناموس الكوني بشكل عام إلا أننا قرأناه في تجارب البشرية على ما هو حولنا هنا على كوكب الأرض و لم يستبعد العلماء ثبات هذا القانون في عالم الفضاء البعيد و الذي لا زلنا في طور اكتشافه .
تعودنا أن نستشهد ببراءة الأطفال وعلاقاتهم مع أقرانهم إلا أننا نسهو دائماً عن أن الشرطية التي نراها جزءاً من عالم الكبار موجودة في عالم الصغار أيضاً وهذا لا يخدش برائتهم بالضرورة كما يبدو، بل يؤكد عليها . الشرطية جزء من عالم الصغار أيضاً ، حيث أن الطفل لا يحب ولا يستلطف الأطفال الذين لا يشاركوه اللعب أو يرفضون مشاركته ألعابهم والطفل هوأول من يؤكد على العلاقة المنفعية منذ تعلقه بتلك التي ترضعه واحتمائه بها، مروراً باجتهاده للحصول على : التفوق، التميز، الحب، الطمأنينة وغير ذلك من كل ما يدفعه للبذل مقابل التحصل على..(أي شئ).
وإن دققنا جيداً بالعلاقات الثنائية بشكل عام وأخذنا بعين الاعتبار علاقة النحل بالزهور و النباتات و الكثير من الثنائيات التي تعتمد على التبادلية النفعية- بقصد أو بدونه - لضمان استمرار النوع بالحياة و هي قد فطرت على هذه العلاقات بالاصل . و هنا نستدرك وجود هذه العلاقات الشرطية بمفهوم النفعية التبادلية التي تختلف عن تلك التي يمارسها البشر ببعض جوانبها ، فمن حيث أن السلسلة الغذائية " الهرم الغذائي" و الذي تفوق فيه الانسان ليصبح على رأس القائمة، يعتمد اعتماداً وثيقاً بنوعين من النفعية، الأولى نفعية تبادلية،كعلاقة النحل بالزهور و الثانية التي تكون النفعية ليست متبادلة مباشرة مع الآخر، كاعتماد الحيوانات الضارية على اصطياد العاشبة للبقاء على قيد الحياة، فهي بذلك مستفيدة إلا أن الأخر متضرر، بيد أن المنفعة تكون على مستوى أكبر من نجاة أفراد من النوع بل بخلق التوازن الازم لثبات المنظومة البيئية و بهذا تكون النفعية متبادلة بين النوع – الضاري- و الطبيعة الأم .
كل ما سبق يأتي بنيجة واحدة لنتفق عليها أو لندعها دعوة للنقاش و التحليل مجدداً و هي أن كل العلاقات الشرطية " النفيعة التبادلية، النفعية التبادلية بشكل غير مباشر " يمكن وضعها في خانة الضرورة الحياتية و هنا اتحدث عنا كبشر و أقصد العلاقات الاساسية التي نبنيها مع الآخرين و نتعايش معها . هي ليست بالضرورة علاقات سلبية و مضرة بل على العكس فنحن كبشر نمتلك تراتيبية تشبه " الهرم الغذائي " و يترتب من خلاله ما نسميه " المنفعة المتبادلة" بدء من علاقة العامل برئيسه في العمل إلى علاقة المواطن بالوطن كرمز عن حالة مؤسساتية و هكذا ، لكن هذه العلاقات البشرية ترتبط بمعايير مختلفة عن العلاقات الحيوانية و نهجها الفطري في التعاطي مع المصلحة الذاتية المباشرة دون القلق على بقاء النوع و استمراره بالوجود .
لا يمكن لعلاقة شرطية أن تنجح إلا بوجود عامل يحفظ التوازن بين الطرفين و هو العدل، و هو ما يدفع بهذه العلاقة إلى التوسع و الاستمرارية بكل حال، بيد أن عالمنا أقسى من أن يؤمن بهذه النظرية و يفضل أن يتعامل مع الآخر بالعلو و التكبر و ينسى أهم قاعدة وقانون فيزياء المعروف " لكل فعل رد فعل يساويه بالقوة و التأثير " .
إذاً، ولو اتفقنا أن الحب علاقة مبنية على المنفعة التبادلية أو الشرطية، فما الذي يميز الحب عن بقية العلاقات التي تعتمد ايضاً على مبدأ "خذ وهات". كما قلت بالفقرة السابقة الحب كناتج عن العملية التفاعلية يحتاج لوسط مناسب يحتوي على العدل والثقة والقبول، العدل بين طرفي المعادلة ، والثقة بين الطرفين اللذان لا يوجدان جزافاً بل لوجود الحب، ولبركاته . الرغبة بالحفاظ على العلاقة يدفع الطرفين ايضاً للمزيد من العطاء والثقة المفروزة ضمناً تمنح الواهب والموهوب السخاء العاطفي دون دواع التوقف وانتظار المقابل المحسوس ضمناً المحسوب على غرار الارصدة المؤجلة والأمان العاطفيّ.
لا تنقص الشرطية من قدر الحب ولا تقلل من معناه، لكن نوعية الحاصل وقيمة المردود وسمو المرتجى هم ما يحدثون الفرق الحقيقي ويجعلون من هذه العلاقة التبادلية والتي تشبه بشرطيتها العلاقات الأرضية عامة، علاقة شرطية أسمى ما فيها وأسخفه هو ذلك الشرط. المنح السخي والصادق للمشاعر الحقيقية والصادقة سيبقى مرهوناً بالمتلقي ومدى صدقه وسخاؤه ، وكل ما يمنحه المانح يعود إليه دون أدنى شك بذلك، وهنا يكمن الفرق بين السماوي والأرضي، هنا يكمن الفرق بين الماديّ والروحيّ، بين المحسوس والملموس.
أن يغفو العاشق وفي وعيه الكثير من الطمأنينة والسلام يمنحه في الوعي واللاوعي فضاءً كاملاً من الخفة والحلم والحرية، لا عقود بين العشاق بل هي عهود غير مكتوبة وآمال غير محدودة وايمان لا منتهي.
المختلف بأمر الحب وبأمر المنفعة العائدة منه الممنوحه فيه هو طبيعة تلك المنفعة والإدراك غير المعترف به بضرورتها، نحن كبشر نتوق إلى السعادة ونحتاج لما يؤكد لمرورنا جدواه ولوجودنا معناه ، ووحده الحب من يمنحنا ويعود علينا بالسعادة والإحساس الحقيقي بالحياة وهذا ما سأكتب عنه بالجزء الثالث إن شاء الله .