ليس من قبيل الصدفة أن تشتبك فلسطين وأمي، أن يرتبك العيد فيّ، وأقترب حتى ألامس نجمها، علّي أكون يوماً، علّي أصير..
وكنتُ امشي، وكنتُ أنسج وجهك المشغول من تعبٍ وزيتونٍ وزيتٍ مقدّس، أعمّدني بمائك الذي مسّته الأنبياء، بزرقةِ فيروزٍ وفضة، تصاوير قديمةٍ قدم البلاد، كنتُ أمشي باحثاً عني، عن بيتٍ غرسه جدي وأثمرنا، تناثرت شظاياه من بين أصابع أبي، وأجهد في لملمة ما تبعثر.
صّه، نحن الذاكرةُ التي تلبس أثواباً هيهات تهترأ، نحفظ كل شبرٍ آيةً، كل أيةٍ معجزة، وكل معجزةٍ فاتحةً لخلقٍ جديد، نسخةً من جينات الجد، شيفرةً مما تناثرَ من ذاكرةِ الأب، الخال، العم، الجار، الصديق، ونعيدُ صياغتنا، حفرُنا في المكان، ونُعيد للفسيفساء رونقها، هنا هنا شجرٌ، هاتيك حجارةٌ من عهد كنعان، ذاك الزعتر البري يحمل نكهةَ أمٍ تنحني على الغراس، هذه تباشير طفولةٍ تنشر فجرها أفقاً، هذا خيط تطريز الجدة، وهذا الثوب. قطعةً إثر قطعة يتصاعد لحم البلاد، ينتشلني صوتُ هدهدةٍ
يا طيورٍ طايرة ع جبال العالية
قولي لامي وابويّ القدس راعية
ترعى وز وتمشي غز
وتنام تحت الدالية
تتكسر الأغنية، تميل دفتها ببحر الدمع، وشواطئ الشال المطرز، والتقط حسرةً أخرى
مال الصمود ومالنا بدنا نعيّش عيالنا
واللي باع حالو باعها
واللي جاع معها دراعها
مالكم ومالها فالها ع حالها
ضامدة ولو عارية
وتطير فراشاتٍ فوق المهد، يراقاتٍ من نورٍ وضوء، وأمضي سائراً، لا برهةً للتفتيش توقفني، ولا حاجزٍ لحظي، هو الزمن فلسطيني بامتياز التاريخ وذاكرة الجدة، حتى وإن صادروا الجغرافيا.
وأمشي، في كل بيتٍ عرس، ومواكبٍ تتقدم، هذا هو الخيل المطّهم، يرّقص الساحاتِ من عّزِ، ويشعلها بقائمتين على وتد النشيد، تينع صبايا الحي كورود الحقل، يتمايلن ويقع من جرح الجمال قلب، أهزوجةً أخرى تدك بلاط هذي الأرض، نقرةً اخرى ويرتفع شرر الكعب إذ يطرق البوابات، هذا بعضٌ منا قد أتى يصدح
دق الرمح بعود الزين وانتو يا نشامي منين
واحنا شبابك فلسطين والنعم والنعمتين
وأسير صوبك، على دميّ المنقوش حناءً على أكف البلاد، زغرودةً اخرى وأمضي، أفتح كف صبيتي، اوشّي دمعها بمخمل دمي، وأعود لتكملني الحكاية.
وأمشي، هأنيّ طفلاً لا يعرف الأدبِ، أطرق كل الأبواب وكل النوافذ، تندفق الشوارع، الحواري، الأزقة، غسيلُ جارةٍ يعتصره الماء، طفلٌ أخرقٌ تسرب من واجبه المدرسي، أطلق العنان لطائرةٍ ورقية، يعانق فيها وجه السماء، عجوزٌ يتوكأ على ماضي أيامه ملكاً، فيما تقرقر النرجيلة بحكايات، أمٌ تعيد حبك ابتسامتها بعيد تعب نهارها المضني، شال صبيةٍ تعيد عصب رأسها بعد أن انفلت شلال الحرير، وأنفخُ في زيتونها، رمانها، وتين طورها لتعود حيّة، هي سبحة البلاد، قدُوسُ اسمها، إذا ما انفرط عقدها تداعت الأرواح تحمل لؤلؤها.
يا بلادي آتيك بكفين عاريتين، فاوشميني ببعض حنّاءك، يا أم البلاد، آتيك مثقلاً بالطل وقد انتزعوني من رحمك انتزاع، وما زال حبلنا السري ينزف، وما زلتُ مهداً يناغيه حلم البلاد.