يوحي الخطاب السياسي الذي تتداوله الأحزاب السياسية المغربية أياما معدودة قبل حلول الانتخابات التشريعية في 7 أكتوبر المقبل ، بأن كل شيء بات جاهزا ومرتبا بعناية لضمان إجراء انتخابات شفافة ونزيهة ومغايرة تماما لكل الاستحقاقات الماضية ، فالضمانات المعنوية والسياسية تم الالتزام بها على مستوى رفيع في هرم السلطة، والأدوات القانونية والتنظيمية والإمكانات المالية واللوجستية الضرورية لهذا الاستحقاق تم توفيرها ، وعلى الجبهة الإعلامية عمدت السلطات المغربية إلى إعلان حالة استنفار في التلفزات والإذاعات العمومية بهدف الرفع من نسبة المشاركة وضمان حق كل الأحزاب في تسويق برامجها ومرشحيها تحت مراقبة الهيئة العليا للإعلام السمعي –البصري.
تترجم هذه الأجواء السيكولوجية العامة التي باتت تكتنف الأحزاب ،والمتمثلة في الانكباب على ترتيب شؤونها الداخلية ، وتمنيع مقوماتها التنظيمية واختيار اللغة الملائمة لمخاطبة الزبائن السياسيين المفترضين ،وكذلك البحث عن حلفاء محتملين ومقربين لتجنب أي خسارة سياسية قد تلوح في الأفق. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة وإلحاح، هو هل قررت الأحزاب الدخول إلى الانتخابات المقبلة بعقلية جديدة متمردة على التقاليد الانتخابية السابقة، والتي أفرزت برلمانات مزورة، كما كان يتفق على ذلك أغلب الفاعلين السياسيين ، أم أن القطيعة مع الماضي غير ممكنة بحكم طبيعة الممارسات السياسية السائدة في صفوف عدد من الأحزاب؟
يبدو أنه من الصعوبة بمكان ،الجزم بأن ثورة فُجائية ستمس التشكيلات الحزبية وسترغمها على التأقلم مع المعطيات الجديدة التي تميز النسيج الاجتماعي المغربي حاليا ،خاصة في ظل ازدهار وهيمنة شبكات التواصل الاجتماعي ، وفي ظل وجود فضاءات بديلة لمقرات الأحزاب التقليدية ،كما أنه من المستحيل أن نتصور حدوث دينامية فكرية وأخلاقية داخل مجموعة من التنظيمات، لأنها تفتقر لأسس ومقتضيات هذه الدينامية، الشيء الذي يقلص مساحة التفاؤل العريض الذي يسوق حزبيا وإعلاميا حُيال نزاهة الانتخابات.
إذا أصبحت الشفافية هي المفتاح السحري للديمقراطية، فإنه يتعين على جزء كبير من الأحزاب أن تدلي بالأرقام الحقيقية لمنخرطيها، الذين من المفروض أنهم يشكلون النواة الصلبة لوجودها في الحقل السياسي. لكن في المغرب يظهر أن القاعدة مغايرة تماما، فكل الأحزاب لها منخرطوها وقواعدها ،حتى وإن كان لم يمض على ولادتها أيام معدودة، ولا قيمة هنا لعدد الأعوام والعقود والخبرة التنظيمية والمرجعية السياسية والتراكمات الثقافية والاختيارات الإيديولوجية.
إن الأحزاب كما هو معروف في الأدبيات السياسية، هي تجسيد للجغرافيا الاجتماعية، وهي في الآن ذاته فضاءات حرة لنقاش مسؤول حول توجهات معينة تشمل كل المجالات وهي -أي الأحزاب -ضرورية بغض النظر عن أخطائها وهفواتها، لأنه لايمكن للديمقراطية أن تشتغل بشكل جيد بدونها، بل هي العمود الفقري للديمقراطية. وإذا كان الأمر كذلك ،فإن أي حزب يحترم أبسط المبادئ الديمقراطية والأخلاق السياسية، يتعين عليه أن يكون منسجما مع الواقع الاجتماعي والسياسي وعاكسا لنبض وتحولات هذا الواقع، حتى لا يتحول إلى عائق في وجه التطور الديمقراطي، وحتى لا يصير مجرد ديكور باهت في المسرح السياسي . وهذا ما يحتم اعتماد صيغ بديلة في العمل السياسي ، عوض المراهنة على الأوهام، والحنين إلى ممارسات تنتج التخلف السياسي ، وتصادر الإرادة الشعبية بأساليب غير أخلاقية ،مكانها الطبيعي مزبلة التاريخ.
أكيد أن الناخب يشكل المعيار المناسب للحكم على القاعدة الاجتماعية لحزب ما، كما أن هذا الناخب هو الذي يصنع الحزب في الديمقراطيات التمثيلية، ويمنحه الحياة ويمكنه من الوصول إلى السلطة، حتى وإن كان غير ملتصق به أو منخرط في إحدى تنظيماته. بيد أن هذا الناخب هو كتلة من القناعات و المشاعر والأفكار والانفعالات، وقد يختار أسلوبا عقابيا وانتقاميا أثناء الاقتراع عندما تفشل البرامج والمشاريع المقترحة من قبل الأحزاب في الاستجابة لطموحاته وأهدافه، وهذا مايفسر كون أزمة الأحزاب في علاقتها مع المواطنين، في المحصلة النهائية، هي أزمة عدم تأقلمها مع حاجيات المجتمع الذي يعيش تحولات عميقة ويتطلع إلي إصلاحات ملموسة وقطائع جذرية مع وعود وديماغوجية السياسة السياسوية التي تخضع لحسابات تكتيكية تمليها المصالح المباشرة والانتخابوية للأحزاب، أكثر ما تفرضها استراتيجية طويلة المدى تتطلبها حاجيات المجتمع وانتظاراته.
إذا كنا نعي بأن الانتخابات ليست ملكية للأحزاب تتصرف فيها كما تشاء وتفسر أهدافها كما تريد، فإنه من الضروري أن تتعاطى هذه الأحزاب مع الانتخابات من منظور وطني سليم ،يجعل منها حلقة أساسية في الصيرورة السياسية ،وفي الوقت نفسه خطوة طبيعية وعادية لتحقيق البناء الديمقراطي وتجسيد شعار دولة الحق والقانون. وأي تعامل خارج هذا المنظور ،لا يمكن أن يكون إلا نقيضا للديمقراطية، لأنه ببساطة ،سيفضي إلى سلوكات مشبوهة وملتبسة، لن تساهم في شيء، سوى في إشاعة البلبلة والتشويش على قناعات المواطنين وتحريضهم على النفور من العمل السياسي والاشمئزاز منه.
هذا الكلام ربما ينضح ببعض القسوة ، لكنه قطعة من الواقع السياسي المستفز خاصة في خضم انتعاش ما يمكن تسميته بثقافة الإرهاب الانتخابي و الفكري الذي يعشش في أذهان ناشطين سياسيين ،لا يفرقون بين مستلزمات الممارسة الديمقراطية، ومتطلبات العملية الانتخابية، حيث يريدون أن تتحول هذه العملية إلى قيامة حقيقية، تلغى فيها كل أوجه الحياة، وتصبح فيها وسائل الإعلام العمومي خاصة التلفزيون بوقا للدعاية الانتخابية ،وتشتغل دون كلل أو ملل وعلى مدار الساعة. وينسى هؤلاء أن للمجتمع حقوقا لا يمكن القفز فوقها أو طمسها بسبب أو بدون سبب، ما يفيد عدم حرمانه من مساحات تمكنه من مناقشة مشاكله وتقريبه من جملة من القضايا الوطنية والإقليمية والدولية، عوض اعتقاله في زنزانة لغة خشبية نفعية ومؤقتة. وأعتقد أنه في التجارب الديمقراطية الحقيقية، ليس هناك من يفكر بهذه الكيفية المناهضة لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، فالحملات الانتخابية تنظم والبرامج الحزبية تعرض والمنافسة تحتد، لكن في خضم كل ذلك، تحافظ الحياة على وتيرتها العادية ولا تتعرض برامج التلفزيون للارتباك بسبب الانتخابات، وفي أقصي الحالات يتم تكييف بعضها مع اللحظة الانتخابية في جو من المهنية والاستقلالية والنزاهة.