مما نسب إلى الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ قوله : ( أحببْ حبيبكَ هوناً ما ، لعله يصبح بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما لعله يصبح حبيبك يوماً ما )، وعندما قال الإمام الحكيم ذلك، وهو الذي أثنى على علمه وفهمه النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفق ما أورده بعض الرواة في العبارة المعروفة : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها )، فإنما قال الإمام ذلك عن عِلم ودراية ناتجة عما كان يراه من طباع الناس في ذلك الزمان
والمتأمل في طباع الناس في هذه الأيام أيضاً، يجدهم في أمس الحاجة إلى هذه الحكمة، النصيحة، فهم إلى المغالاة في مشاعرهم أقرب من الاعتدال فيها، سواء في ذلك أكانت المشاعر مشاعر الحب، أو مشاعر البغض، وذلك مردّه ـ كما أرى ـ إلى أننا في الشرق العربي، وفي بعض المناطق المجاورة ، مجتمعات تسوقها العاطفة، وتعصف بها ريح الهوى، بعيداً عن التفكير السليم والنهج القويم.
.
ألم تر أينما اتجهتَ، وأنت تقلب عينيك في المحيط الذي تعيش فيه تغير اتجاه بوصلة مشاعر الناس، بسرعة البرق، من النقيض إلى النقيض، حتى ألِفْنا أن نردد البيت القائل : (ما سُمّيَ القلب إلاَّ من تقلبـــه فاحذر على القلب من قَلْب وتحويلِ ) ؟! فإننا إذا أحببنا حبيباً توجناه ملكاً في قلوبنا، وقلنا فيه ما لم يقله المتنبي في سيف الدولة الحمداني، وإذا أبغضنا عبداً من عباد الله، وضعنا من شأنه، وقللنا من قيمته وقدره، وقلنا فيه ما لم يقله الأديب الأندلسي ابن زيدون في رسالته ( الهزليّة ) التي جعل فيها من ابن عبدوس منافسه على حب ولادة بنت المستكفي أضحوكة بين الناس، متناسين أن هذا الحبيب من الجائز أن يصبح بغيضاً ذات يوم، وأن هذا البغيض من الممكن أن يصبح حبيباً ، وفي كلتا الحالتين ـ إذ ذاك ـ سنعضّ أصابع الندم .
.
وليت هذا الأمر ـ وأعني أمر المشاعر التي تتقاذف علاقات الناس كما تتقاذف الريح أوراق الخريف ـ مقتصراً على الأفراد ، وفي الإطار الاجتماعي الضيق ، وإنما أصبحت هذه الحالة تنسحب لتشمل الإطار الأوسع، أي أنها امتدت وانتشرت لتصبح على مستوى الجماعات ، فأصبحت الفئة من الناس لا ترى في الفئة الأخرى إلا وجوه الخلاف ، ومواضع الاختلاف، وتتعامى عن أن ترى فيها ما يمكن أن يفتح باباً من أبواب الوفاق، أو درباً من دروب الاتفاق لبلوغ هدف منشود أو غاية مرجوّة ، وذلك من خلال البحث عما يمكن أن يكون بين الفئتين مما ينفع ويَجمع، ويقارب ولا يباعد ، وهذه هي الطامة الكبرى ! لماذا ؟ لأن مثل تلك المشاعر عندما تكون على مستوى الأفراد فإنها تفسد العلاقة بين بعض أفراد المجتمع ، أما عندما تكون بين فئة من الناس وأخرى، أو بين فئات عديدة، قد يكون بينها تمايز في الانتماء العرقي أو الديني أو الطائفي أو المذهبي أو الأصل الاجتماعي أو الانتماء الإقليمي فإن ذلك يوجد شرخاً بين فئات المجتمع، وفي سياق بحث الفئة عن سبل الحماية من الفئة، أو الفئات الأخرى، تكون مضطرة للبحث عن نقاط الضعف لدى تلك الفئة، أو هؤلاء الفئات، وهكذا يتحول الشرخ إلى انفصال، فإذا وُجِد مِن ذوي المصالح، ومن ضعاف النفوس والعقول ، من يصب النار على الزيت ليذكي نار الفتنة، يتطور الانفصال إلى عداء، وهذا ما يعني انفراط عقد المجتمع ومن ثم انهياره التام .