خارج المكان.. كان هذا عنوان كتاب لإدوارد سعيد، قد أجمل ودمج فيه سيرته الذاتية مع سياقات ودوائر تشكل وعيه كمثقف - وربما كمثال ونموذج -؛ لتشكل سياقات الوعي الجماعي الذي ميز الشخصية الثقافية العربية والفلسطينية تحديداً في غمرة مفاعيل النكبة والاغتراب والهجرة القسرية. الآن ربما يتجاوز الأمر حيز النفي خارج المكان، إلى النفي خارج الزمان فيما يخص قضايا العرب الكبرى - إذا بقي ثمة قضايا واهتمامات كبرى - وفي مقدمة ذلك قضية الشعب الفلسطيني، كأوضح وأعدل قضية صادفها التاريخ ضمن تقاطعات مصالح القوى الدولية الكبرى الفاعلة في هذا العالم الرازح تحت ضغوط وعوامل فعل وضرورات مصالح وحسابات حقول وبيادر تلك القوى.
الآن تبدو القضية الفلسطينية تفصيلاً هامشيًّا في حسابات القوى الدولية والإقليمية، وقبل ذلك في حسابات الدولة القطرية العربية، بالمقارنة مع ما توليه تلك القوى لمسألة التزاحم بالمناكب على مستقبل خطوط الغاز وطرق ووسائل الحصول على المواد الأولية في خدمة إنتاج التقنيات الفائقة وفي خدمة تأمين وسائل وأدوات تصديرها بعد تصنيعها وإعادة تدويرها.
وقد يبدو من اللافت وكأكثر من أي وقت مضى مقدار ما وصلت إليه منظومات الثقافة العربية من انشطار وتشظّ وانفصام، وفقدان التوازن، والخلل في ترتيب الأولويات وتوضيب المهمات - إن كان ثمة مهمات واضحة المعالم والرؤى والأهداف -، وكذلك ذلك المقدار من الاغتراب والإمعان في ممارسة ثقافة الإنكار من جانب، والتماهي مع الشعور بالعجز والفشل والإحباط في المواجهات الخاسرة المستمرة منذ نكبة الشعب الفلسطيني الكبرى وحتى الآن على الأقل.
من الواضح أنَّ الفلسطينيين ومن ورائهم العرب يعيشون الآن مرحلة الاغتراب ليس خارج المكان فحسب، بل أيضاً خارج زمان التكتلات الدولية والإقليمية الكبرى، الاقتصادية والسياسية، وخارج دائرة الفعل اللولبي المعرفي والتكنولوجي الرقمي فائقة السرعة، تلك الدائرة اللولبية الصاعدة فعلاً وأثراً مدويًّا معرفيًّا وتكنولوجيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا خارج ليل العرب الطويل الذي ربما لن يصل قريباً إلى هزيعه الأخير.
وماذا بعد؟، كيف سيسهم العربي والفلسطيني في صياغة مستقبله وهو منفعل حتى أقصى حدود العجز عن أن يصنع جزء يسير من حاضره، الذي يتم صياغته في الحقيقة خارج المنطقة، ولا يملك العربي والفلسطيني حتى حق تلقيه بما يلائم أدنى ضروراته الذاتية، وبما يتصل حتى بحرية اختيار ما هو أقل سوء من بين ما يقدم إليه كمتلق غير فاعل!.
هذه الصورة القاتمة ليست افتئاتاً ولا يتم تمريرها عبر أغشية بصرية سوداوية على قاعدة فعل الفوارق بين مساحات وأسباب التفاؤل والتشاؤم، بمقدار ما يتم ذلك من خلال التحليل الموضوعي لمجريات ووقائع الذي جرى ويجري في المنطقة من شمال سوريا وحتى جنوب اليمن ومن شرق العراق حتى عمق غرب الشمال العربي الإفريقي، مروراً بفلسطين الدائرة بمستقبلها ومستقبل قضيتها على رحى دوائر النار المندلعة في غير مكان من المنطقة بصورة عبثية إلا من منهجية أهداف من يقومون بإذكاء أوار اشتعال تلك النيران حتى تقضي القوى الكبرى وطرها وأمراً كان بالنسبة إليها مفعولا!.