يقول أهل العلم إن نظرة المرء إلى كأس نصفها مليء بالماء ونصفها فارغ تعتمد على حالة التفاؤل أو التشاؤم التي تعتري الناظر. فإذا وصف المتفائل الكأس قال : الكأس نصفها مليء ، أما المتشائم فيقول : الكأس نصفها فارغ .
وأنا من الذين يرون أن منطلق التوفيق ، وأساس النجاح ، هو أن يكون الإنسان من الفئة الأولى ، لما في ذلك من الخير ، فإن ذلك يريح النفس ، ويبعث الأمل ، ويشحذ الهمّة . هذا على المستوى الشخصي ، أما على المستوى الاجتماعي ، وهو الجانب العام والهامّ أيضاً من حياة الإنسان ، باعتبار أن ( الإنسان كائن اجتماعي ) كما يقول ابن خلدون ، فإن الفئة المتفائلة التي ترى النصف المليء من الكأس هي الأكثر نجاحاً ، لأنها الأقدرعلى تقييم الأمور بموضوعية وبمنطق علمي ، فإذا كان الفراغ جزءاً من واقع الكأس ، فإن الماء الذي في النصف الآخر من الكأس هو أيضاً جزء من هذا الواقع ، ولكنه هو الأكثر قدرة على التغيير .
وبتعبير آخر ، إن النصف الذي يروي الإنسان الظمآن ويحدث الفعل والتغييرهو النصف المليء ، أما النصف الفارغ ، فلا يغيّر شيئاً . والناس في بلادنا ، كما أرى ، وللأسف الشيد ، هم في الغالب من الفئة الثانية ، وهي الفئة التي تصف الكأس بناء على نصفها الفارغ . فإنهم يصفون الفلاح الذي زرع نصف حقله بالمهمل ، والطالب الذي حصل على نصف العلامة الكلية بالفاشل ، والفريق الذي لم يحالفه الحظ في المباراة النهائية بالخاسر ، متجاهلين أن الزارع ( المهمل ) قد زرع نصف الحقل وكسب ، وأن الطالب ( الفاشل ) قد أتقن الكثير من المهارات ، ونجح فيها ، فحصل على نصف العلامات ، وأن الفريق ( الخاسر ) قد تجاوز على طريق الفوز والتفوّق الكثير من الفرق قبل أن يصل هذه اللحظة الفارقة ، وأن الذي يصفونه بـ ( الخاسر ) الآن، كان يوصف قبل لحظات بأربح الرابحين!
وليس هذا الأمر ـ وأعني الحكم بناء على رؤية النصف الفارغ من الكأس ـ مقتصراً على درب من الدروب ، أو مجال من المجالات ، بل على العكس من ذلك ، فإن هذا الأمر ينطبق على جميع شؤون الحياة ، ومنها مجالات العلم والأدب والسياسة والاقتصاد وغيرها ، فما دام هذا الأمر عند أصحابه هو الفضاء النفسي الذي يتحركون فيه ، والمنطلق العملي الذي ينطلقون منه ، فإنهم لن يميّزوا في حكمهم على طبيعة ما يرون بين هذا المجال وذاك ، ذلك أنهم يحكمون بناء على هذا التفكير المتشائم الذي يسيطر عليهم ، والناتج عن الجهل في معظم الأحيان ، فيمنعهم هذا النمط من التفكير من أن يروا الأمور على حقيقتها ، فيكونون في نهاية المطاف هم الفاشلون في الحكم ، والخاسرون في النتيجة .