ما أسهل أن نسمع شتماً وقذفاً وتخويناً وتشكيكاً واتهامات بالعمالة في حياتنا اليومية عن فلان أو فلانة وفي كل مجالات الحياة. ما أسهل أن تكون محط اتهام من قبل الآخرين وأن يتم التشكيك بوطنيتك وانتمائك ونزاهتك الشخصية أو المهنية لأنك تختلف بالقول أو الفعل مع فرد أو مجموعة. وفي عصر الهوس بوسائل الاتصال الاجتماعي وتفاعلنا المحموم على صفحات التطبيقات الافتراضية، يصبح من السهل أن ينتقل أي خلاف ضيق إلى قضية يتفاعل معها الآلاف شتما وسبا وتحزبا دون الخوض بالضرورة بأصل الخلاف وتفاصيله حيث من الممكن أن يرتكز النشاط الافتراضي المحموم على صورة هنا أو تصريح غير مؤكد هناك أو حتى موقف شخصي لا يعرف أحد على ماذا بُني أو إلى ماذا استند للوصول إلى استنتاجاته القاسية تلك. ويفسح الفضاء الافتراضي المجال لاحتدام الخصومة وتعميمها كما تعميم الضرر الناتج عنها دون الالتزام بأدنى معايير الأخلاقيات أو حتى النزاهة فيتم شيطنة شخص أو مجموعة وتنتشر أخباره/هم المفترضة في الفضاء الإلكتروني وتصبح مرجعية لمن أراد إذكاء نار الحملة من حين لآخر أو الاستعانة بحلقة ردح سابقة لتبرير حلقة لاحقة.
المقلق في هذا الواقع الصاخب هو أن تبعات ما يحدث فيه لا تقتصر على العالم الافتراضي لأنها تجد طريقها إلى تفاصيل حياتنا اليومية وتفرض نفسها على النقاش حول أي موضوع أو حدث في الوطن لأنها تخلق مواقف مسبقة حادة وترسخ اصطفافا عنيفاً بين جماعة "مع" وجماعة "ضد" في كل مفترقات المواضيع التي تستلزم حواراً وطنياً هادفاً وبناءً يفضي إلى حل قضية مهما صغرت أو كبرت.
الأمثلة كثيرة ومؤلمة. مثلا، في الحديث عن إضراب المعلمين قبل أشهر، أسكت ضجيج التخوين والتشكيك أي حوار كان من المفترض أن يبدأ حول طبيعة السلك التعليمي وحقوق العاملين فيه ومكانة التعليم ونوعيته في الوطن. كان الضجيج عالياً وفظاً لدرجة أن من حاول العودة بالحوار إلى أصوله اتهم هو الآخر بالمساهمة في المؤامرة التي اختلف تشخيصها بحسب الجهة المطلقة للاتهام – فإما أنها مؤامرة ضد الوطن والخط الوطني وحتى النظام السياسي أو أنها مؤامرة على المعلمين والتعليم والحياة النقابية والحقوق المدنية. وفي الحديث عن الحريات العامة والصحافة، لا يختلف الأمر كثيراً فالتصنيفات جاهزة كما الاتهامات – فإما أن تكون مأجوراً ومحسوباً على "جهات خارجية مشبوهة" ومتربصاً لأسباب سياسية، أو تكون "سحيجاً" و"طبيلاً" و"ذنباً" للنظام السياسي أو الأمني. المفارقة في هذا الخصوص أن الاتهامات المتبادلة تتبادل الصفوف أيضاً بحسب واقع الانقسام فمن يُتهم بشيء في الضفة الغربية يجد رديفاً له في قطاع غزة يتهم الآخر بذات الجرائم المفترضة وهكذا دواليك.
لكن بالعودة إلى قواعد الحوار في الوطن فالأصل أن نسأل كيف وصلنا إلى هذا القاع والإجابة لن تعجب الكثيرين لكنها تكمن في الفصائل والأحزاب السياسية التي استسهلت التخوين والتشكيك والتكفير والتعرض لأعراض الناس وحياتهم. الحقيقة أن الملامة لا تقع بالكامل على المجتمع الذي يمارس الحوار بذات القواعد التي رسمتها له الأحزاب والفصائل السياسية التي تتنافس بالمسبات والردح والشتائم عوضا عن البرامج السياسية والاجتماعية وفي ظل انعدام تام ومحبط للرؤية. اللوم يقع على هؤلاء أولا ثم على من أمر بترجمة هذا التحريض المتراكم لرصاص أنتج بحوراً من الدم فرقت بين الأخ وأخيه. واللوم يقع أيضاً على نخبة المثقفين والأكاديميين الذين يصطفون على ضفاف الشرخ ويمارسون الردح والتخوين أو ينزوون إلى حلقاتهم المغلقة حيث التحشيش الفكري الذي لا يؤثر في المجتمع بل يلعنه على علاته ونواقصه في ظل استنكافهم عن الخوض في القضايا الإشكالية وممارسة الرياء في تناول مواضيع أخرى.
المفارقة المحزنة في هذه الصورة العامة القاتمة أن فلسطين لا زالت تحت الاحتلال وكل المشككين ومن يتهمون الآخرين بالخيانة والكفر والتقصير شركاء في واقع يُبعد فلسطين عن إنهاء الاحتلال ويقربها من الانتحار الجماعي. طالما بقيت فلسطين تحت الاحتلال، على هؤلاء أن يقولوا للشعب الفلسطيني كيف أن هدفنا بحرية فلسطين تكون أقرب ببذائتهم وثقافة الشتائم والتحريض التي تغرس الحقد وتحصد العنف الداخلي بينما يتفرج علينا المحتل بشماتة الذئب الذي يحضر للانقضاض على فريسته.
فلسطين يجب أن تجمعنا وحبنا لها يجب أن يكون القانون الناظم بيننا فلا نشكل معارضة تعتمد البذاءة والتخوين ولا نظاماً حاكما يستند في حكمه على التشكيك بالمعارضين والطعن بمنطلقاتهم. لكن للأسف فلسطين لا تجمعنا اليوم فقد ضاق فضاؤها بصراخنا وعويلنا وضاع صوتها عنها فضللنا الطريق.