لقد أصبح الشاعر، باعتباره منتج النصِّ، على وعيٍّ تامٍّ بالدور الذي يلعبه القارئ، والذي يمكن أنْ نطلق عليه اسم منتج المعنى. وصارتْ حياة النصِّ أو موتُه رهينة بتلك المسافة الزمنية التي تطول أو تقصرُ بين فعل الكتابة وفعل القراءة. أو بتعبير آخر بين انتهاء زمن الكتابة وابتداء زمن القراءة. بهذا يظلُّ القارئ-استنادا إلى سلطة التلقي-حاضرا في الزمنين، ولئن كان حضوره في الزمن الثاني طبيعيا، فإنَّ حضوره في الزمن الأول ليس كذلك على الإطلاق، من باب أنَّ فعل الكتابة كما يوهم ظاهره ويدَّعي ممارسوه هو من حق الشاعر فقط. ومع هذا يحضر القارئ في ذهن فاعل الكتابة كمحدد لنوعية القراء التي يستهدفها هذا الأخير. وعليه، يكون محددا لطبيعة الكتابة ذاتها.
وما دام الحال هكذا فلا بدَّ من الإقرار بأنَّ"سلطة المتلقي ليستْ خارجية دائما، بل هي، في أحيان كثيرة استبداد داخليّ"(العلاق، علي جعفر.الشعر والتلقي. ص:68.)يمارَس على المبدع ويحضر معه وهو يرسم لقصيدته طريق بحثها عن اختلافها وعن قارئها معا سواءً على مستوى طبيعة الشعرية وأساليبها، أو من حيث اجتهاد الناصِّ في إخراجِ نصِّه بطريقة يتوخَّى بها زمرة معيَّنة من القرَّاء، ونقصد بتلك الطريقة التشكيل البصري والمكاني للقصيدة على البياض. كما أنَّ كل كتابة، هذا حالها، تضع نصب عينيها عينة من القراء، تهتمُّ بهم في تفكيرها اللاواعي بشكلٍ ملحوظ. وترى بأنَّ"كل قارئ للنص يجسد، في حقيقته، أحد المعاني الممكنة للنص المقروء"([1] العلاق، علي جعفر. ص:65.).وتتحقق هذه الرؤية إذا سلمنا بداية بأنَّ الكتابة الإبداعية تكونُ في أصدق تجلياتها عبارة عن"عمل تحريضيٍّ، يحرض الذات ضد الآخر، وهي في الوقت ذاته تحريض للآخر ضدَّ الذات"( الغذامي، عبد الله. الكتابة ضدّ الكتابة. دار الآداب، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 1991. ص:7.)يستثير القارئ والناقد على حدٍّ سواء. ليفتح كلٌّ منهما بارودَه على النصِّ الذي يفتح صدره ليتلقّى وليحتمل إرغامات الطرفين وتأويلاتهما.
إنَّ مفهوم التعدد الذي باستطاعة شعرية المفارقة إضفاءه على النص، يروم بشكلٍ مباشر توتيرَ العلاقة الدائمة والمتجددة بين القارئ وبين نصّه. ويبتغي منْحَ القارئ دورا أكثر فاعلية في التعامل مع النصّ قراءة وفهما وتأويلا. من هنا تضعنا شعرية المفارقة أمام مفهوم الانفتاح الذي يوجب، وبشكلٍ نهائيٍّ، أنْ"نتجنَّب فرض التأويل الوحيد على القارئ"( إيكو، أمبرطو. الأثر المفتوح. تر: عبد الرحمن بوعلي. دار الحوار، اللاذقية-سورية، الطبعة الثانية؛ 2001. ص: 22.)الذي باستطاعته الوصول إلى أكثر من دلالة وفهمٍ إلا إذا تصادم مع أحادية الرؤية التي تعرضها بعض الكتابات التي تجنحُ إلى المباشرة بصورة ترفضها طبيعة الشعر. ولا يمكن مطلقا لهذا التعدد والانفتاح أنْ يتحققا إلا بشحن النص بالإيحاء الكفيل بمنحه أكثر من دلالة يتمُّ اكتشافها من طرف أكثر من قارئ أيضا.
لابدَّ من الإشارة إذن، إلى أنَّ شعرية المفارقة هي ظاهرة نصية بامتياز، إذ تستطيع من خلال ما تزرعه في النصِّ من تضادٍّ وتناقض أنْ تسير به صوب المغايرة المنشودة. غير أنَّها-أي المفارقة-لا تكتفي بهذا فقط، بل ترمي بظلالها على المتلقي وتحطمُ أمامه مرآة الواحدية التي كان يرى من خلالها المعنى بجاهزية مسطحة تتعامل مع القارئ بطريقة التلقين. من أجل هذا"تعتبر المفارقة عنصرا تشكيليا فاعلا أصيلا ومركزيا في الفن الشعري، لأنها تشحن التعبير بقوة إبلاغ فنية تنقل التلقي من حدود الاستقبال المطمئنّ إلى الاستقبال المفاجئ"( عبيد، محمد صابر. العلامة الشعرية:قراءات في تقانات القصيدة الجديدة. عالم الكتب الحديث، اربد-الأردن، ط؟ 2010. ص:161.)الذي يُدخل القارئ حتما إلى مغامرة جمالية يكتشف فيها-بواسطة التأويل وملاحظة العلائق الظاهرة والخفية بين عناصر بنية النصّ-أسرارَ الخلق الشعريّ من خلال تقنيات المفارقة التي تجمع في آنٍ واحد كل المتناقضات ضمن رقعة واحدة هي القصيدة. وكأنها تعيد بناءَ علاقة جديدة بين النقيضين حتى يتعايشا أو بين الشبيهين حتى يتباعدا ويجتاحُهما حَرُّ التنافر.