هناك خيط دقيق يفصل بين الخطأ الطبي وبين الجريمة الجنائية. من الحالات المشهورة، لكنها النادرة أيضا، التي تم فيها سجن طبيب وتقديمه للمحاكمة على خلفية خطأ طبي، قضية طبيب المغني الامريكي المشهور مايكل جاكسون، الذي تسبب في وفاة جاكسون بعد أن وصف له وأعطاه مادة "بروبوفول" التي تستخدم في التخدير. وقد ذكرت النيابة أن هذا المخدر يجب أن يعطى في داخل مؤسسة صحية وليس في المنزل كما حدث مع جاكسون، وبالتالي وجهت للطبيب تهمة القتل غير العمد نتيجة مخالفته الجسيمة للأصول والبروتوكلات الطبية.
وهناك جدل في كثير من الأنظمة القانونية حول متى يصبح الخطأ الطبي جريمة. وقد حسمت أغلب الدول هذا الجدل من خلال إصدار تشريعات خاصة بالمسؤولية الطبية، وإلزام المستشفيات والمراكز الصحية بالتأمين ضد الأخطاء الطبية. وبشكل عام، فإن التوجه السائد في القوانين المختلفة، أن الأخطاء التي تقع اثناء قيام الطبيب بعمله وفق الأصول والبروتوكولات الطبية لا تدخل ضمن إطار التجريم الجنائي، وإن كان يترتب عليها تعويض مادي. لكن اذا كان هناك سوء نية، أو إهمال جسيم، أو تجاهل واضح للأسس والبروتوكلات الطبية فإن الخطأ يدخل في نطاق الجريمة.
في فلسطين يوجد فراغ تشريعي مريع في موضوع الأخطاء الطبية، وبالتالي فإن الأمر متروك للأحكام العامة الإدارية والقضائية التي تتعلق بالمسؤولية المهنية والإهمال والخطأ، وهي أحكام غير كافية وغير مناسبة لمعالجة موضوع معقد مثل الأخطاء الطبية. نتيجة لذلك، تقع الأخطاء الطبية ولا نعلم في كثير من الحالات أنها وقعت، وهذا يفسر عدم وجود قاعدة بيانات وطنية توضح عدد حالات الأخطاء الطبية. واحيانا تقع الأخطاء وتتم التغطية عليها، وهنا الجريمة الجنائية التي هي افدح من الخطأ الطبي ذاته.
قضية المواطنة فائدة الاطرش التي توفيت يوم الاثنين الماضي في مستشفى بيت جالا الحكومي اثناء جلسة غسيل كلى، أكبر مثال على ذلك. وحيث أن التحقيق لم ينته بعد، فلا يمكن الان الجزم فيما إذا كان هناك خطأ طبي عادي أم خطأ طبي جسيم يصل إلى حد الجريمة، أم أنه لا يوجد أي خطأ من الأساس. لكن يمكن الجزم بأن جريمة أخرى وقعت وأخطاء أخرى ارتكبت منذ وفاة المواطنة الأطرش، متمثلة في كيفية تعامل بعض الجهات الرسمية والطبية مع الخطأ الطبي، او مع شبهات وجود خطأ طبي كي لا نستبق نتيجة التحقيق.
فقد تم في البداية نفي وجود أي خطأ من قبل إدارة المستشفى حتى قبل البدء بأي تحقيق رسمي. وقدم مدير المستشفى معلومات خاطئة تنافي الحقيقة حول الوضع الصحي للمواطنة المرحومة. لجنة تحقيق شكلت من الوزارة تلتها لجنة أخرى من خارج الوزارة، قدمتا تقريرين مختلفين. العائلة أصرت على إجراء تشريح عدلي، والذي كما يبدو قدم معلومات حول سبب الوفاة لم تشر إليها التقارير الطبية الرسمية، ودفع النيابة إلى توقيف الطبيب. نقابة الأطباء تصرفت بمنطق أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، بحجة عدم توقيف طبيب قبل صدور قرار قضائي. ومع أني شخصيا ضد التوسع في التوقيف والحجز الاحتياطي من قبل النيابة أو الشرطة، ألا أني اتفهم وجود حالات استثنائية يتم التوقيف فيها خدمة لاجراءات التحقيق، خاصة اذا كنا نتحدث عن حالات موت مواطنين.
يجب توجيه التحية لعائلة الأطرش، التي اصرت وما زالت تصر على معرفة الحقيقة، وطالبت بالتشريح، ورفضت نتائج لجان تحقيق لم تكن ممثلة فيها بشكل مناسب ولم تكن راضية عن حياديتها واستقلالها. لقد رفعت هذه العائلة من معايير وسقف التعامل مع حالات الاشتباه بالخطأ الطبي، وكشفت حالة الفراغ التشريعي وغياب اللجان الدائمة المختصة بالتحقيق في هذه المسائل، والخلل في ضمان استقلال هذه اللجان وحق العائلات في تسمية ممثل عنها فيها.
لقد انتقلت روح فائدة الاطرش إلى بارئها، ولعل افضل شئ يمكن ان يقدم لراحة روحها وارواح جميع ضحايا الاخطاء الطبية في فلسطين، هو الإسراع في إصدار نظام خاص بالأخطاء الطبية عملا بأحكام قانون الصحة العامة الفلسطيني لسنة 2004، واصدار نظام آخر يلزم كافة المستشفيات والمراكز الصحية، بما فيها الحكومية، بالتأمين ضد الأخطاء الطبية عملا بأحكام المادة 2 من قانون التأمين الفلسطيني، وإنشاء صندوق وطني للتعويض على الأخطاء الطبية.
وأخيرا الوقاية خير من العلاج. الاخطاء الطبية هي نتيجة لضعف الإمكانيات والضغط الشديد على المرافق الطبية ونقص عدد الاطباء في بعض الحالات بحيث يضطر الطبيب للعمل ساعات طويلة والكشف على عشرات المرضا، ما يزيد نسبة احتمال الخطأ.