بقلم: د. عصام عابدين
الأخطاء الطبية، تخضع للقواعد العامة في المسؤولية، ولا يوجد أيّ استثناء في القانون لمصلحة الأطباء، ومتى وقع الخطأ الطبي الذي يتمثل في انحراف الطبيب عن الأصول العلمية والمهنية في علاج مريضه؛ سواء في صورة إهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة للقوانين والأنظمة، فإن هذا الخطأ يُرتب مسؤولية الطبيب الجزائية والمدنية في آن معاً نتيجة الضرر الذي ألحقه بالمريض.
لا توجد علاقة، بين حجم الخطأ، وقيام المسؤولية الطبية، فالمسؤولية الطبية تقوم سواء أكان خطأ الطبيب جسيماً أم يسيراً. إنّ التفرقة بين "الأخطاء الطبية الجسيمة واليسيرة" مردها نظرية قديمة اندثرت، ولم يعد لها وجود في تجارب الدول؛ لأسباب عديدة من بينها صعوبة وضع معيار ضابط لها فالخطأ اليسير قد يؤدي إلى نتائج فادحة والخطأ الجسيم قد يتم تدارك نتائجه.
وإذا كان معيار جسامة الخطأ الطبي غير معتبر في قيام المسؤولية الطبية، أي بمعنى أنها تقوم بوقوع الخطأ الطبي أياً كانت درجته، فإن جسامة الخطأ تكون معتبرة في تحديد حجم المسؤولية المترتبة على الطبيب؛ فقد يؤدي خطأ الطبيب إلى وقوع جريمة إيذاء غير مقصود أو إيذاء مفضي إلى عاهة مستديمة أو جريمة قتل غير مقصود، وقد تبلغ الجسامة حد الجريمة المقصودة.
هذا هو الاتجاه السائد في تجارب الدول، وبخاصة في الأنظمة الديمقراطية، وهو ما استقرت عليه محكمة النقض الفرنسية منذ حكمها الصادر في العام 1862 وقد قضت فيه " إن كل شخص مهما كان موضعه أو مهنته يُسأل عن إهماله وقلة احترازه وعدم تبصره، وليس هناك أي استثناء ما خلا ما نص عليه القانون، كما أنه ليس هناك استثناء لمصلحة الأطباء".
وفي حكم آخر تقول محكمة النقض الفرنسية " إن أي درجة من درجات الخطأ تكفي لقيام المسؤولية الطبية، والمهم هو أن يثبت هذا الخطأ بشكل يقيني، ولا حاجة مطلقاً لإثبات جسامة الخطأ، فالطبيب يسأل عن أخطائه ولو كانت يسيرة".
وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية " إنه من المقرر أن إباحة عمل الطبيب مشروطة بأن يكون ما يجريه مطابقاً للأصول العلمية المقررة، فإذا فرط في اتباع هذه الأصول أو خالفها حقت عليه المسؤولية الجنائية والمدنية متى توفر الضرر، بحسب تعمده الفعل ونتيجته أو تقصيره وعدم تحرزه في أداء عمله، وأياً كانت درجة جسامة هذا الخطأ".
والعلاقة بين الطبيب والمريض، هي علاقة عقدية، والمسؤولية عقدية، وهي تحتم على الطبيب بذل العناية اليقظة التي تمليها أصول المهنة، وقد يصل التزام الطبيب إلى التزام بتحقيق النتيجة المتفق عليها مع المريض، وليس فقط بذل العناية اليقظة، وذلك في بعض أنواع الجراحات التجميلية أو البلاستيكية؛ وهذا ما يُلاحظ في بعض الاجتهادات الفقهية والقضائية المقارنة.
وإذا كان الطبيب عاملاً في مستشفى فإن المسؤولية المدنية والحالة تلك تكون تضامنية تجاه الطبيب والمستشفى، ما يبرز أهمية التأمين في مجال الأخطاء الطبية والتعويض عن الضرر، ولكن المسؤولية الجزائية تبقى قائمة على الطبيب، لأن الخطأ الطبي يرتب مسؤولية جزائية ومدنية.
وتحديد معيار الخطأ الطبي، يختلف بين الطبيب العام والطبيب الأخصائي،حيث يضاف إلى الأخير معيار شخصي يتمثل في مستواه المهني، للحكم على مسلكه كأخصائي، ويقاس على أقرانه من ذوي الاختصاص، إلى جانب المعيار الموضوعي المتمثل في اتباع الأصول العلمية والمهنية المستقرة.
وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية " إن واجب الطبيب في بذل العناية مناطه ما يقدمه طبيب يقظ، من أواسط زملائه علماً ودراية، في الظروف المحيطة به أثناء ممارسة عمله، مع مراعاة تقاليد المهنة والأصول العلمية الثابتة، وإنَّ انحراف الطبيب عن أداء واجبه وإخلاله بالتزامه المحدد يعد خطأ يستوجب مسؤوليته عن الضرر الذي يلحق بالمريض ويفوت عليه فرصة العلاج، ما دام هذا الخطأ قد تداخل بما يؤدي إلى ارتباطه بالضرر ارتباط السبب بالمسبب".
وهذا ما سارت عليه محكمة استئناف بيروت بقولها " وحيث أنه لا محل في مجال الخطأ الطبي للتفريق بين الخطأ الجسيم والخطأ اليسير لترتيب التبعة على الطبيب، فيكفي أن يثبت على الطبيب خطأ لم يكن ليأتيه طبيب من أواسط زملائه في مهنته أو فرع تخصصه ولم يكن له أن يقصر به عن مراعاة الأصول المستقرة في فنه حتى تتحقق تبعته وإن كان خطؤه بوصفه أو بأثره محدوداً، وحيث أنه تجب الإضافة من ناحية ثانية أنه لا يجب التجزئة في نتائج عمل الطبيب إن أتت هذه النتائج في الصورة الطبيعية من عمله فإنه إذا كان الطبيب قد أجرى العملية لمريضه فشفي المريض من علته غير أن العملية خلّفت فيه بالطريقة الخاطئة التي أجريت فيها وضعاً مرضياً آخر فإن الطبيب يُسأل عن هذا الوضع المستحدث بخطئه".
إن الإشكالية في التعامل مع الأخطاء الطبية، في الحالة الفلسطينية، لا تقتصر فقط على ضعف الإمكانيات البشرية والفنية على المستوى الوقائي خلافاً لما تتطلبه الاتفاقيات الدولية ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي انضمت إليه فلسطين وما يمليه من التزامات تتعلق بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الخدمات الصحية، وإنما في ترك كل ما يتعلق بالقواعد والأحكام المتعلقة بالأخطاء الطبية للأحكام العامة في القانون.
هنالك حاجة لتنظيم قانوني للمسؤولية الطبية، يعالج مختلف جوانبها الموضوعية والإجرائية؛ وبخاصة طبيعة العلاقة بين الطبيب والمريض، ومفهوم الخطأ الطبي، ومعياره، ومراحله في التطبيق من حيث التشخيص والعلاج والجراحة، والقواعد الخاصة بإثبات الخطأ الطبي، وما يتعلق باللجنة العليا للمسؤولية الطبية واللجان الفرعية المتخصصة ومعايير العضوية فيها بما يكفل تحري الكفاءة والخبرة والاستقلالية ومدة العضوية في اللجان ومهامها واختصاصاتها وبخاصة في نظر الشكاوى المقدمة وإجراءات عملها والتقارير الصادرة عنها ومدتها الزمنية والقواعد الناظمة لها وحجيتها في الإثبات، والتأمين على المسؤولية الطبية، وسجل الأخطاء الطبية ..إلخ.
يعتبر قانون المسؤولية الطبية الليبي رقم (17) لسنة 1986 الأول من نوعه في التشريعات العربية في هذا المجال، ومؤخراً في أيلول الماضي صدر في الإمارات العربية المتحدة المرسوم بقانون اتحادي رقم (4) لسنة 2016 بشأن المسؤولية الطبية ونشر في الجريدة الرسمية الاتحادية الإماراتية.
إن غياب التشريع الخاص بالمسؤولية الطبية، بما يتضمنه من قواعد وأحكام وإجراءات ناظمة، من شأنه أن يفتح المجال للكثير من الاجتهاد، وإنْ شئت قُل الإرتجال، والدوران في حلقات مفرغة، وبذلك نصبح أمام بيئة خصبة لاستمرار الأخطاء في ظل غياب المحاسبة، ونتعامل بعقلية سادت في عصور قديمة كانت تضفي القداسة على مهنة الطب ولا تسمح مطلقاً بالمحاسبة على الأخطاء.