كانت الوسيلة الأمثل لقوى الهيمنة الاستعمارية وبشكل خاص النظام السياسي الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية هي بالعمل على إخفاء التناقضات الجوهرية ما بين شعوب المنطقة (وبعض أنظمتها السياسية)، بتحويلها من صراعات سياسية وطنية وقومية بل وطبقية إلى اسوأ أنواع الصراعات والتناقضات المفتعلة متمثلة بالصراعات الدينية والمذهبية، كل ذلك حتى يمكنهم الإمساك بالمنطقة الغنية بالموارد الطبيعية وبالمواقع الاستراتيجية.
ما نراه على سطح الصراع الراهن هو هذا الشكل البدائي من الصراع والعمل على تقسيم المنطقة طائفياً بواسطة قوى رجعية متسلحة بأحدث الأسلحة والتكنولوجي، وباستغلال بشع لأحدث أشكال ثورة المعلومات وممارسة أقذر أشكال الصراع. حبذا لو قاتل هؤلاء "السلفيُّون" كما قاتل السلفيُّون السابقون بالسيف والرمح، وركبوا الخيل والجمال بدلاً من سيارات الدفع الرباعي والتكنولوجيا الحديثة، مستخدمين كل وسائل التواصل الاجتماعي.
لا ندري كيف استطاعت هذه القوى الشريرة استحضار أو اختراع وتشغيل بعض أدعياء الدين لإحياء وإذكاء الصراعات المذهبية التقسيمية، وأن يصبح العداء مثلاً إلى "الشيعة" هدفاً معلناً لهؤلاء اللذين يدَّعون حماية الدين والأخلاق في الوقت الذي يحملون به السيوف والسكاكين والرشاشات ويحصدون فيها أرواح الأبرياء، وكيف يصبح العداء للدين المسيحي ولأتباعه هدفاً للإسترقاق أو الطرد من بلادهم وهم –كما علمنا الدين الاسلامي– أهل كتاب وما بين هذه والطوائف الأخرى جسور من العلاقات التاريخية مثل الأزيديين والشبك والدروز وعشرات الطوائف والملل اللذين عاشوا آلاف السنين في بلادهم في وحدة واحدة.
حتى هذه الفترة وإلى زمن –ربما يطول- سوف تكتوي المنطقة بنار الطائفية والمذهبية وبكل أشكال الصراعات ومحاولة التقسيم السياسي ودون أن نغفل أيضاً محاولات الحركة الصهيونية -وهي حركة قومية بالأساس- أن تستثمر الديانة اليهودية -وهم أيضاً من أهل الكتاب- لخدمة أغراضها التوسعية والعنصرية وتأجيج العداء مع الفلسطينيين وهم عرب مسلمون ومسيحيون ودروز، وما الإصرار على إرغام الفلسطينيين للاعتراف بيهودية الدولة سوى محاولة لتحقيق هدفين وهما: إنكار حق الفلسطينيين في وطنهم، واستثمار العنصر الديني اليهودي لتحقيق هذا الهدف وتجنيد أوسع قاعدة من المتعصبين المتدينين لخدمة أهداف إسرائيل التوسعية.
في سياق حرف بوصلة الصراع هذه، دفعت إسرائيل بالمستوطنين وأغلبهم من المتدينين، إلى الاستيلاء على الأماكن الإسلامية وارتكاب مجازر مثلما تم في الحرم الإبراهيمي، أو محاولة حرق المسجد الأقصى في القدس والاعتداءات التي لم تتوقف على الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية.
الرسالة التي على القيادة السياسية الفلسطينية تقديمها للعالم يجب أن لا تقوم على إذكاء الصراع الديني بين مسلمين ومسيحيين ويهود، بل بالعمل على إبراز الصراع الرئيس، وهو الصراع السياسي.. صراع بين شعب فلسطيني بدياناته وطوائفه المتنوعة، وبين نظام استعماري يقوم على الفصل العنصري كما أنه ليس صراع بين مؤمنين وكفار. لا بد أن تقوم قيادة سياسية جريئة تعرف تاريخ المنطقة منذ إبراهيم الخليل –وحتى ما قبل ذلك- وحتى اليوم، وأن تضع كل الأديان والطوائف في سياق حركة التاريخ وتطوره الثقافي والاجتماعي وليس باعتبارها موجهة للصراعات السياسية الراهنة.
الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية بكل تفرعاتها يجب أن تكون لها قدسيتها واحترامها وكذلك احترام كل المؤمنين بها، ويجب وضع الأنظمة التي تكفل حمايتها وحماية أماكنها المقدسة وحرية الوصول لها باعتبارها تراثاً دينيًّا وتاريخيًّا يؤكد على عمق الحضارة الإنسانية، حضارة ما بين النهرين وبلاد الشام ومصر وهي كنز بشري لا بد من الحفاظ عليه وحمايته من القوى الظلامية ومشغليها من قوى طامعة.