قبل أسبوع تبنت منظمة اليونيسكو قرارين سنويين لصالح فلسطين، أحدهما حول الاعتداءات الإسرائيلية ضد الأماكن المقدسة في الأرض المحتلة والاعتداء على حق الفلسطينيين (مسيحيين ومسلمين) في حرية العبادة والوصول إلى الأماكن المقدسة، والآخر حول استهداف إسرائيل لقطاع التعليم. القراران لم يحملا جديداً في المضمون واللغة المستخدمة (وهذا غير مستغرب في مثل هذه القرارات التي يتم طرحها كل عام نتيجة استمرار الانتهاكات الإسرائيلية وصلف المحتل وتعاليه في التعامل مع القانون الدولي وقرارات المنظمات الدولية التي تفتقر إلى الإلزامية أو أي تبعات للانتهاك). لكن الجديد فيما يخص اليونيسكو هو حملة إعلامية وتحريضية محمومة أنفقت عليها إسرائيل ملايين الدولارات استهدفت الرأي العام في أوروبا والأمريكيتين بشكل خاص. حملة استبعدت تماماً الحديث عن القرارات، وركزت على اتهام المؤسسة بإنكار أي رابط تاريخي أو ديني لليهود في القدس تحديداً، مدركة أنَّ هذا العنوان سيدغدغ مشاعر الفلسطينيين والعرب الذين يواجهون مشروع إسرائيل الكولونيالي الذي يستند فقط إلى رواية تاريخية ودينية محرفة ومسخرة لتبرير الاحتلال والإحلال، وهما عنوان المشروع الصهيوني في فلسطين.
الحملة الإسرائيلية كانت جارفة ومدروسة وامتدت لأشهر طويلة، مستهدفة الرأي العام الدولي وصناع القرار على حد سواء، لدرجة أنَّ عدداً من الحكومات استدعيت لبرلماناتها لجلسات استماع حول هذه الاتهامات وواجهت ضغوطاً كبيرة من الأحزاب والشخصيات والإعلام الصديق لإسرائيل الذي تناغم في هجومه ضد القرارات المتعلقة بفلسطين في اليونيسكو تحت هذه الذرائع المختلقة. خلاصة الموقف الهجومي هذا أنَّ القرارات المعنية لا تستخدم مصطلح "جبل الهيكل" لوصف الحرم الشريف بالقدس والتهمة أنَّ إنكار وجود الهيكل المزعوم هو إنكار لروابط اليهود بالقدس وهو ادعاء هش تدحضه أولى فقرات القرار الفلسطيني في اليونيسكو الذي يقر بأهمية القدس للإرث الإنساني ومركزيتها لدى الديانات السماوية الثلاث!
ورغم فشل إسرائيل في إجهاض القرارين، إلا أنها نجحت نجاحاً ساحقاً في تحريف النقاش حول القرارين ولفت الأنظار عما تضمناه من إدانة لسياساتها العدائية. هذا النجاح كان جليًّا في ردود الأفعال الفلسطينية حول القرار، حيث تسابقت وسائل الإعلام وكثير من المسؤولين على مباركة القرار لأنه ينفي أي صلة لليهود بالقدس ولم يتطرق هؤلاء أو يكلفوا أنفسهم عناء قراءة النصوص المتوفرة على صفحة المنظمة الدولية بالعربية والإنجليزية وغيرها من اللغات الرسمية في الأمم المتحدة، حتى أنَّ المسؤولين الفلسطينيين ووسائل الإعلام لم يلتفتوا للتصريحات الرسمية بهذا الخصوص ولم يأبهوا بتفاصيل المعركة الدبلوماسية الدائرة، ولم ينتبهوا لأصوات إسرائيلية هاجمت حكومة نتنياهو لتحريفها الحقائق حول القرار الذي لا علاقة له بالحملة الإعلامية الإسرائيلية. وبهذا.. ساهم اللاعبون الفلسطينيون في صناعة الهزيمة للرواية الفلسطينية والجهد الدبلوماسي الفلسطيني عندما تباهوا بنصر لم يحصل، وتجاهلوا إنجازاً حاصلاً فعلاً.
الأخطر من ذلك أنَّ التهليلات الفلسطينية هذه، والمستندة تماماً لما تروجه إسرائيل بعيداً عن الحقيقة ساهم وسيساهم في تعزيز ادعاء إسرائيل أنَّ المساعي الفلسطينية في منظمة اليونيسكو لا علاقة لها بالحفاظ على التراث الحضاري والإنساني ولا صلة لها بحماية التعليم أو أي من أهداف المنظمة الأخرى. إسرائيل رمت الطعم وهي تعي تماماً أنَّ الكثيرين في فلسطين سيلتهمونه نتيجة تكاسلهم واستهتارهم وعزوفهم عن أبجديات العمل الصحافي والسياسي لأنَّ من هلل من السياسيين للقرار بالاستناد إلى الدعاية الإسرائيلية لم يمتلك من المسؤولية أو المصداقية ما يدفعه للتواصل مع الجهات المعنية أو قراءة النص قبل الرقص على ألحان الدعاية الإسرائيلية بجهل واستهتار مذهلين. المفارقة الإضافية أنَّ الأصوات القليلة التي تناولت الحدث وواجهت الدعاية الإسرائيلية (ممثلة بالرئاسة ووزارة الخارجية)، كانت ثانوية في إعلامنا الرسمي والخاص إذا ما قارنا المساحة التي أفسحت لها مع المساحة التي تفردت بها بيانات التهليل والترحيب التي رسمت معالم هزيمة الرواية والجهد الفلسطيني من حيث لا تدري. هذه السقطات ستساهم بشكل عملي في تعزيز الحملة الإسرائيلية المطالبة بشطب هذه القرارات ووقف البعثات الاستقصائية التي يقترض أن ترسلها المنظمة للقدس للاطلاع على مدى الضرر الذي تحدثه ممارسات إسرائيل في القدس، وتحديداً في الحرم القدسي الشريف. حتى أنَّ إسرائيل تطالب الآن بإسقاط البلدة القديمة في القدس عن قائمة التراث العالمي المهدد، مستندة إلى ما جمعته من تصريحات فلسطينية للادعاء بأنَّ الفلسطينيين يكذبون وأنهم يُسيّسون المنظمة الدولية وغايتهم في القرارات حول القدس لا علاقة لها بحماية الإرث الحضاري والإنساني للمدينة. هذه التداعيات تأتي في غياب تام للمحاسبة والمساءلة لمن ساهموا في تعقيد المعركة وهزيمة الرواية الفلسطينية من مسؤولين وإعلاميين، ما يؤكد حتمية تكرار السيناريو العبثي هذا في معارك أخرى.
معركتنا مع إسرائيل معركة معقدة ومتداخلة وتشكل فيها المعركة على الرواية وامتلاك زمام المبادرة في مخاطبة العالم محوراً أساسياً يستوجب منا قدراً أعلى بكثير من المسؤولية والتناغم والوضوح في الخطاب ومعالجة القضايا الشائكة. وبدلاً من صناعة الهزيمة نتيجة الاستهتار والكسل والجهل، المطلوب الارتقاء بالوعي والقيام بالحد الأدنى المطلوب من المتابعة. الخطر الأكبر الذي يواجه أي جهد إيجابي هو سهولة الهدم والضرر الذي يلحقه المستهترون بسرعة وسهولة مذهلين!، وكما رأينا، صناعة الهزيمة سهلة إذا ما توفرت العوامل وتبقى صناعة النصر بعيدة طالما كان الاستهتار سهلاً وبدون عواقب.