الحدث- روان سمارة
روايتان فلسطينيتان توجتا على رأس الروايات العربية في كتارا للرواية العربية في دورته الثانية لعام 2016، للروائيين يحيى خلف، وإبراهيم نصر الله فعن ماذا تحكي الروايتان؟
الأولى هي رواية "راكب الريح" للروائي الفلسطيني يحيى يخلف، والصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع في عمّان ورام الله، تتطرح وجه آخر للحكاية الفلسطينية من الزمان العتيق، تلك التي تتقسام أماكنها البطولة مع شخوصها.
أما راكب الريح فهو يوسف "الصابونجي"، الشاب الذكي الوسيم الذي شذ عن عائلته التي اشتهرت بصيد السمك، وصناعة السفن، فقد كانت والدته حريصة على تعليمه علوم الفقه، والحديث، واللغة، وحتى الفرنسية، فوقع في عشق الخط العربي بتكويناته وجمالياته، والرسم، والبحر، والقفز من الأعالي، وأما المكان فهو يافا التي أحب كل تفاصيلها.
يوسف الذي كان له من اسمه حظ، تميز بالحيوية، والحذاقة، وجسم مفتول العضلات، وجرأة تفوق فيها على أقرانه، دور في اقتناص إعجاب الجميع وانبهاراتهم، وخاصة الفتيات، حتى أن ابنة قنصل الدولة العليا العثمانية في فرنسا، وكانت تقضي عطلتها الصيفية في يافا، أعجبت به، وهي التي كانت جسره إلى "العيطموس"، تلك "الأميرة" القادمة إلى الأناضول، والتي يتضح لاحقاً، أنها انضمت إلى "حرملك" قصر جركس باشا، كهدية من سيدها الباشا جنكيز للسلطانة "نخشديل"، وهي في سن الثامنة.
شهرة يوسف في الرسم جعلت "العيطموس" تطمح للقائه والتعرف إليه، وبعد زيارتها الأولى له في البازار برفقة ابنة القنصل، فدعته لقصرها وطلبت منه رسماً مدفوع الأجر، لتتوالى اللقاءات بينهما في قصرها، ومعه تتحرر من قيود "السلطة"، و"اتيكيت" سيدة القصر، وهي التي اعتبرته صديقاً مقرباً، في حين كان كل همه أن يحصل ذات يوم على قبلة منها.
وتتوزع حكايات يوسف ما بين يافا، ودمشق، والأناضول، في رحلة قسرية، استثمرها في محاولاته، ووفق نصيحة الشيخ، للتخلص من "قرينه"، حيث لا تفارقه قواه الخارقة، وتجلت من بين ما تجلت في إنقاذه لغزال من براثن فهد كاد يفتك فيه، ففتك يوسف بالفهد.
وفي النهاية، يعود يوسف إلى يافا، حيث لا بيت، ولا أحمد آغا (والده)، ولا بهنانة (والدته) .. رحلوا ضمن أربعة آلاف "يافاوي" بالقصف أو بالإعدام على يد جيش "الفرنساوي"، وكم كان مفجعاً له حين علم عن اختيار والده لأن يموت موؤوداً، فانتابته ثورة الغضب مجدداً، وكأن "قرينه" يطل برأسه، بينما سعى هو جاهداً لضبط نفسه وقرينه، الذي رحل إلى غير رجعة.
ثمة إسقاطات مهمة لا يمكن إغفالها في رواية "راكب الريح"، أو حكايات فلسطين العتيقة المتجددة، على واقعها المعاصر، بل وواقع المنطقة، فاحتلال «الفرنساوي» ليافا، وتدمير مبانيها، وقتل سكانها، يجعلنا نتخيل جيش الاحتلال في محاولاته المستمرة لإفراغ فلسطين من أهلها، وما ارتكبته العصابات الصهيونية من مجازر وفظائع العام 1948.
أما الإنكشاريون فإنهم يرمزون، بشكل أو بآخر، إلى القوى الظلامية التي باتت تغزو فلسطين والعالم العربي هذه الأيام، بعضها يحمل فكراً تكفيرياً، وآخر يستمرئ القتل والتدمير والخراب، وهنا أستعير ما وصفتهم به "العيطموس" في الرواية بـ"الغرباء الذين جاؤوا من خارج المدينة، ويثيرون الفتن، ويتحالفون مع فقهاء متشددين يصدرون فتاوى جعلتهم يحرّمون كل شيء، ويكفّرون كل من يخالف الشريعة كما يرونها ... وهم أقوى فرقة في الجيش، يتلقون تدريبات عسكرية عمياء، وهم مركز قوة يتدخلون في تعيين السلاطين وعزلهم، وقتلهم إن لزم الأمر، كما أنهم يفعلون كل شيء من سطو، واغتصاب، وفرض أتاوات، ولا أحد يستطيع محاسبتهم".
كما لا يمكن إغفال الحوار ما بين الحكيم ويوسف، وما له من دلالات تغوص عميقاً في التكوين البشري، والصراع الداخلي ما بين الشر والخير في الجسد الواحد .. خاصة حين ينصحه الحكيم بالقول: "الطاقة قوة مغناطيسية داخل الإنسان مرتبطة بالدماغ ... ويمكن أن ننقيها من مظاهر العدوان، والكذب، والنفاق"، بل إن الأمر يصل إلى يوتوبيا ما عند الحديث عن "عالم يخلو من الخطايا.
وأما لغة "راكب الريح" فهي لغة سردية رائقة وسلسة من جهة، وعميقة من جهة أخرى، دون إغفال توظيف يخلف الذكي لمصطلحات عربية لم تعد دارجة، هي ابنة تلك الحقبة، ما يضيف جوّاً خاصّاً ومحكماً في بنية النص، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر "البصّاصون" (المخبرون)، و"مزجّجة" (ترتبط بالحواجب وتعني أنها مشذبة من بعض الشعر)، و"الخويخة" (الباب الصغير)، و"أسحم" (شديد السواد)، وغيرها الكثير، ما يجعل القارئ مضطراً لاستخدام محرك البحث "جوجل" لعله يسعفه في الحصول على معانيها، وكأنه قصد، ليس فقط ربط اللغة بزمان الرواية ومكانها، بل بتحفيز القارئ على إعادة الاعتبار إلى عربية عتيقة باتت منسية، وعربية أقل قدماً باتت مهددة بالانقراض، في زمن انتشار العامية الدارجة، بل ولغة "الفيسبوك"، إن جاز القول.
"أرواح كليمنجارو"
الرواية الثانية هي "أرواح كليمنجارو" للكاتب إبراهيم نصر الله، الصادرة عن دار نيو مزبرلي، وهي تحكي عن مجموعة من الأفراد لا يؤلف بينهم سوى اشتراكهم في مهمة تسلق جبل كليمنجارو والوصول إلى أعلى قمته، في تحد للتضاريس والمناخ السائدين في تلك البقعة الجغرافية.
وتنحدر أصول تلك المجموعة من مصر ولبنان وفلسطين وأميركا ليصبح معهم تسلق أعلى الجبل بمثابة اختبار للقوة الجسدية والنفسية لكل منهم، وليثبتوا بأنهم قادرون على التسامي وتجاوز ما تحمله سيرهم الذاتية من صراعات وعذابات في الحياة.
وقد كان الروائي إبراهيم نصر الله، أحد متسلقي جبل كليمنجارو في تنزانيا برفقة طفلين فلسطينيين، أحدهما معتصم أبو كرش الذي فقد ساقه وجزءاً من يده جراء قنبلة تلقفها رغماً عنه، بعدما اجتاحت منزله في قطاع غزة، والثانية ياسمين النجار من نابلس، وفقدت ساقها في حادث سير، تحت عنوان "الصعود من أجل الأمل"، والتي تكللت بالنجاح في تسلق الطفلين الفلسطينيين والروائي وآخرين، للجبل الذي يقترب ارتفاعه من ستة آلاف متر، رافعين العلم الفلسطيني أعلاه.
لتتزايد التساؤلات داخل نفس إبراهيم نصر الله بعدها بأشهر، إذا ما كان سيرصد الرحلة الجبلية الصعبة في عمل روائي، أو سردية ما، قبل أن يكشف في أيلول من العام نفسه، وخلال ندوة له ضمن فعاليات معرض عمّان الدولي للكتاب، بأنه قرر صياغة الرحلة في عمل روائي، بل وقرأ فصلاً منه، ومن هنا جاءت روايته "أرواح كليمنجارو"، التي تحول فيها، وعلى ما يبدو لأغراض روائية، معتصم إلى يوسف، وياسمين إلى نورا، فيما ابتكر ببراعة شخصية غسان من الخليل، الذي لم يغادرها، لكنه كان مع المجموعة عبر شخصية الطبيبة أروى، إحدى شخصيات نصر الله الروائية، وهي التي سبق أن أخبرته في الرواية بأنها ستحمله في داخلها، وسيصل من خلالها.
وعبر غسان، يسلط الراوي الذي ظل خفياً، الضوء على معاناة الخليل وأهلها، فغسان اعتذر عن المشاركة في الرحلة، خشية أن يستولي المستوطنون على منزله، فإصابته، كما في الرواية، جاءت بسبب قنبلة مرسلة امرأة مستوطنة محمية بجنود الاحتلال، كالعادة، أحرقت منزله بالكامل، وماتت شقيقته متفحمة، في محاكاة لحادثة حرق عائلة دوابشة في دوما، خاصة أن الرواية صدرت بعد الحادثة الأليمة بثلاثة إلى أربعة أشهر، وهو ما قد يجعلنا نضع من بين الاحتمالات: المصادفة، وبالتالي التنبؤ، أو الإضافة عقب الحادثة، خاصة أن غسان ليس ممن صعدوا إلى قمة "كليمنجارو".
ويبدو أن نصر الله، عمد إلى تغيير ما، ليس فقط في أسماء الشخوص الحقيقية ممن رافقوه في الرحلة، أو في ابتكار أو عدم ابتكار شخصيات إضافية، بل في بعض الأحداث المرتبطة بها، لفضح انتهاكات الاحتلال اليومية بحق الفلسطينيين، وخاصة في مدينة الخليل، وبعض القرى القريبة من مدينة نابلس، والتي تعاني من همجية الاحتلال وقطعان المستوطنين باستمرار، بمشهدية عالية مستعيناً بحكايات تلتبس على القارئ، وخاصة الفلسطيني، إذا ما كانت حقيقية بأسمائها وشخوصها وجغرافياتها، أم أنها مبنية على حكايات حدثت بالفعل، وتم توظيفها بشكل روائي لتحقق الهدف، وهو ما نجح فيه نصر الله باقتدار.
ولم يغفل نصر الله، الحديث عن الشتات الفلسطيني، وحالة الاغتراب التي يعيشها من اقتلع من أرضه وداره عنوة، عبر شخصية الطبيبة أروى، التي عاشت جل حياتها في كندا، وتتكرر زياراتها إلى فلسطين على رأس وفود طبية إغاثية، وهي التي لا تزال تتذكر تأبين عمها الشاعر الشهير، الذي رحل في بوسطن، ولم يكن في عزائه ما يزيد على أصابع اليد الواحدة، أو أكثر قليلاً، وكأنها ضريبة الفلسطيني الذي أجبر على الاغتراب.
وربط نصر الله بين رحلة الصعود إلى كليمنجارو، وما رافقها من صعوبات، خاصة تلك التي واجهت يوسف ونورا الصاعدين بساق واحدة، وأخرى اصطناعية، وما بين صعوبات حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، لكن بمجرد وصولهم إلى القمة ورفعهم العلم الفلسطيني، وهو ما حدث بالفعل كما في الرواية، فإنه يجسد في "أرواح كليمنجارو"، والتي اعتبرها نصر الله في حديث صحافي جزءاً من "الملهاة الفلسطينية"، روح التحدي، والإصرار على الحياة، وكأنه، كما قال درويش ذات يوم، يرّبي الأمل، وهذا ما انعكس في العديد من المشاهد، بينها كشف يوسف عن يده المحروقة، والمبتورة جزئياً، بمجرد الوصول إلى القمة، هو الذي كان يحرص على إخفائها طول الرحلة..
وتتسم رواية (أرواح كليمنجارو) بجاذبية التشويق وهي تصور قوة العزيمة والتغلب على الصعاب، مثلما برع في رسم معاني البطولة والشجاعة لفتيان يصعدون سفوح كليمنجارو وهم في بنية جسدية بعض أطرافها مبتور جراء عنف وقسوة الاحتلال الاسرائيلي ليثبتوا للعالم قدرتهم على التحدي والرغبة في الحياة.