ما من كلام لأستشهد به لإنهاء هذه السلسة التي تحدثت فيها عن الحب أبلغ مما ورد في الآية الكريمة في سورة النساء 36: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ دائماً ما كنت أتسائل لم أوصى الله تعالى بالوالدين وفي أربع مواضع من النصف الأول من القرآن الكريم ، "بالوالدين إحساناً " كما وردت في الكتاب توصي وتذكر الأبناء بالبر بوالديهم، هل يستحق الموضوع تذكيراً لولا الحكمة الالهية التي تربط انتهاء المنفعة بالنسيان؟ العلاقة الفطرية أوالحب البديهي بين الوالدين والأبناء ولو نظرنا إليه من زاوية الشرطية لوجدنا أنه غير مشروط بين الطرفين الا أنه ذا منفعة للطرفين على حد سواء، فالطفل الذي يحقق للأب أبوته ويضمن امتداده وللأم أمومتها والتفريغ للعاطفة الفائضة المكتنزة، يتحقق له من والديه الأمان والحماية والحياة. يكبر هذا الطفل بالوضع الطبيعي بين والديه وفي دفء العائلة إلى أن يأتي الوقت الذي يبدأ فيه بتأسيس عائلته وهذا يعني انفصالاً ولو جزئياً عن والديه ، ومع مرور الوقت يتحول اهتمامه وانهماكه إلى عائلته ، وهنا يجدر بي أن أستشهد بمقولة جبران خليل جبران " أبناؤكم ليسوا لكم أبناؤكم أبناء الحياة" التي طالما كنت أراها عبارة عادية لا تستحق كل هذا التهليل الى أن تابعت عفواً تجربة زواج واحد من ابناء أحد الأصدقاء ولأكن دقيقاً أكثر كانت تجربة زواج ابن لصديقة افتراضية أتابعها على الفيسبوك، قرأت بعض ما كتبت وهي تصف فكرة انفصال الأبناء عن والديهم وتحول المسافة بينهما من من قمة بالانصهار إلى قعر سحيق بالجليد الذي يمنع بينهما التلامس الحقيقي فيما يحافظ على شفافية الصور القديمة، ولا يحجب الذاكرة أبداً ، هذه الصور التي تمر بينهما ويراها كل واحد من زاويته، تثبت انتهاء صبلاحية المنفعة لواحد من الطرفين ووجود من يعوضها، فالأم تنظر الى تلك الصور بحزن وحنين فيما الابن ينظر اليها والى أمه التي تحدق بالصور نظرة شفقة فحسب، فثمة ما يملأ فراغات الصور في حياته وروحه لكن تلك الفراغات تزداد عمقاً وخواء من زاوية الرؤية لدى الأم، يزداد الجليد قساوة مع الأيام ويتحول لونه من الماء إلى الثلج الأبيض من الزاوية التي ينشغل عنها ولا تذرف فيها الدموع أما الزاوية الأخرى فتحافظ على شفافية الجليد، ففيها يتم البكاء بصمت والحنين بخجل والتذكر بتسليم بأن هذه هي سنة الحياة. لأنها سنة الحياة ولأن المنفعة المباشرة والعاطفة المتدفقة لم تعد بتلك الأهمية أوصى الله في كتابه الأبناء بعدم النسيان على الأقل، وهنا تقفز الى رأسي فكرة المنفعة التي تحدثت عنها، فبمجرد انتهاء المنفعة أو تواجد من يعوضها يتحول الطريق إلى غاية أخرى وينسى واحد من الطرفين (والنسيان من طبيعة البشر) كل تلك الصور وكل ذلك العطاء غير المشروط بالعلاقة، وهنا مجدداً ومن خلال هذه الآيات التي أوصت بالوفاء على الأقل تؤكد الحكمة الالهية على أن العلاقات بمجملها منفعية تبادلية. أعود للحب وبعيداً عن علاقة الآباء بالأبناء ، يقال أن ثمة منفعة تعود على كل طرف ودعوني اؤكد ذلك فيما لو تم الاتفاق على أن هذه المنفعة نوعية ومختلفة ولا تندرج ضمن الملموس بل المحسوس، المنفعة في العلاقات بشكل عام تشكل التدفق المادي بين الطرفين الا أنها في علاقة الحب تكون النهرالذي يجري بينهما، جريان هذا النهر هو ما يمنح للعشب اخضراره وللاسماك بهجتها وللوجوه صورتها النقية على صفحة الماء، يصبح المكان أشبه بالجنان الموصوفة بالكتب والسعادة تحصيل حاصل دون طلب ودون شرط، إذا المنفعة كنوع هي ما تميز علاقة الحب ، وهذا لا يضير معنى الحب ولا يسخف منه كقيمة عليا ، ما الذي يعود للعاشق الفقير الا ذلك الشعور الغني باختلافه ووجود ولو شخص واحد على الأرض يرعى ويسمن هذا الاختلاف، كسر الشعور بالوحدة ، المشاركة المحببة للافكار البسيطة ولن اقول السخيفة، تبادل الهواجس، الاحتواء، التواصل، الغناء ، الرقص، وكل ما يمكن أن يمنح الشعور بالفرح بوجود من يشهد ويفرح لذلك . الحب وبآخر هذه السلسلة التي أردت فيها الحديث عنه بشكل شمولي ومختصر، هو الإحساس الوحيد الذي يحافظ على الضوء الداخلي الذي يدلك إلى طريق السعادة، ما من وعد بتحقيق السعادة المطلقة ، لكن هذا الضوء وهو يظهر أمامك النعم والجمال والأمل يمنعك من السقوط كثيراً في وعكات الحزن واليأس ويؤكد على أن الطريق .. هو الحياة ، والحياة تبدأ دائماً طالما الحب هو الدليل.