الحدث- علاء صبيحات
هو مثلكم طبيعي، لا يهوى المغامرة، ولا يعشق التسلق، وغير هاو للسفر، ويحب عائلته، يداعب طفلته سادلا شعرها بيديه مبتسما، وهو يحادث زوجته عن المرحلة التي وصل إليها بناء عش الزوجية الجديد، مفصلا كلامه تفصيل محترف للبناء، بكل حواسه، لم يقرأ كتبا منذ زمن بعيد، كان يعشقها، لكن ظروفه حالت دون الروايات، هو ما زال يحتفظ بصورة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، بجانب مكتبته المغبرة.
في لحظات فقط، انقلب مزاجه رأسا على عقب، لقد تذكر أن عليه أن يحجز مكانا له مع سيارة نقل العمال إلى الداخل، فما تبقى له سوى يوم واحد من الإجازة. يتصل بناقل العمال، حاملا كل هموم الكوكب بين كتفيه، يكاد يبكي من شدة الألم، فغداَ الساعة الثانية فجرا، لن يكون هنا، سيودع لوتس طفلته، ووديع طفله، نحو رحلة غير مرغوبة إطلاقا.
كان ممكن لكفاح، أن تكون الرحلة أسهل، لو أنه لم يقبض عليه في الداخل عدة مرات، ليتحول ملفه لدى سلطات الاحتلال إلى "ممنوع من الدخول لأسباب أمنية"، فكان لزاما عليه أن يدخل تهريبا إلى مكان عمله، الذي يتيح له على الأقل تسريع عملية بناء بيته، موفرا بعض مصاريف البيت، لذا فهو مضطر ليتغيب عن بيته شهرا أو شهرين على الأقل، ثم يعود لبيته ضيفا لثلاثة او اربعة أيام.
غدا في مثل هذا الوقت، لن تكون لوتس موجودة لتعطيه أطنان الحنان، رغم أنها لا تزن أكثر من ستة عشر كيلوغرام، موزعة على أربع سنوات ونصف، هي بالنسبة له ضعف حياته، كل عيونه، يحب كلمة بابا البريئة جدا، حينما تطلب منه طلبا، فهو بالمناسبة يعلم ان لفتتاته خمس ابتسامات، الأولى حينما تطلب غرضا، والثانية حينما تكون خائفة من العقاب، والثالثة حين تتفاجأ بهدية ما، والرابعة حين يداعبها ابويها، والخامسة هي الأجمل عندما تراه أول مرة حين عودته من السفر الطويل.
أما وديع، فلم يفهم تلك التناقضات، هو في العام الثاني فقط، وعليه أن يفرق بين كلمات أمه عند غياب والده، "تع احكي مع بابا"، بالهاتف النقال، فهو يعلم ان بابا هو هذا الجهاز السخيف، وبين بابا الضيف الذي يأتي مرة كل شهرين.
كل هذه التناقضات هو يعالجها بصمت، تندلع حربا داخل دماغه، لن يفهمها أحد، ولا يحادث أحداً بها، لأنه يوما ما فقه أنه على الرجل ألا يتحدث عما أصابه، لعل هذا ايضا هو ضعف الالم، تمحوا ابتسامته كلمات زوجته، تسأله ماذا أعد لك في الشنطة، هنا ينفجر ضاحكا من شدة المقت في داخله الصامت كالبحر، كل هذا وأكثر.