الكل يجمع، عقائديا كان او مذهبيا، ان الاحتكار هو شيء غير مرغوب فيه لما فيه من ضرر ينسحب على المجتمعات والأفراد، ويتجند العديد لمحاربته ومعارضته، وهناك فتاوى دينية تحرمه كما هناك قوانين وضعيه تعمل على مقاومته والحد من إمكانات حدوثه، واصل كلمة الاحتكار في اللغة العربية يأتي من "الحكرة" بمعنى السيطرة، ولكن اللافت للنظر ان مفهوم الاحتكار المتداول مرتبط بالظواهر الاقتصادية وبالتالي يبقى قاصرا عن تفسير الكثير من الأشكال الأخرى والتي تتطابق مدلولاتها ونتائجها مع مفهوم الاحتكار ولكن في جوانب أخرى بعيدة عن الاقتصاد كالجوانب السياسية او الفكرية او الدينة وغيرها.
الاحتكار السياسي هو النقيض التام لمفهوم الديمقراطية القائم على الاعتراف بالآخر وتعزيز التداول السلمي للسلطة وبناء مجتمع مدني يرتكز الى العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات وفتح الحوارات بين الأفكار والثقافات، فهو في جوهر معناه انه هيمنة واستفراد حزب او مجموعة او فرد في فرض فكر سياسي او ممارسة بعينها بحجة حوزة المعرفة والفهم الأصح للصالح العام مما يؤدي الى استفحال الاتكالية واللامبالاة. وهذا النوع من الاحتكار عادة يحول دون السماح للآخرين بالمشاركة بالرأي او العمل او المعارضة وفي أحسن الأحوال السماح جزئياً لهم وبالقدر الذي لا يخرج عن السيطرة للحزب او للمجموعة او للفرد المحتكر او يخل بمكانته السيادية العليا عند اتخاذ القرارات، وهو عادة ما يكون له دور أساسي في حدوث بلبلة وعنف وتناقضات مجتمعية وسياسية وفكرية محتدمة بسبب التضييق على أصحاب الراي المخالف والآخر مما يؤثر بشكل مباشر على اشكال المعيشة والحكم المدني ويؤدي الى تردي الاوضاع الاقتصادية كمحصلة طبيعية لحالة عدم الاستقرار.
في واقعنا الفلسطيني، يمارس الاحتكار السياسي بامتياز يوميا ليس فقط من قبل السلطة الفلسطينية، بل أيضا من قبل غالبية الأحزاب التي تقف على طرفي الحلبة السياسية سواء في المعارضة او في الموالاة. فهم يحتكرون " الفهم والوطني لأسس الصراع وسبل حله" ويختزلون التمثيل لوجهات النظر الفلسطينية عبر رؤاهم دون الرجوع الى غالبية الشعب الصامتة غير المؤطره والمسيسة ويعتبرون من يخالف رأيهم بانه إما خارج عن الملة او القانون او أداة اجنبية بأيدي آخرين او انه من هواة السياسة والعمل العام ولا يعتد برايه، ويتصرفون بأنهم فقط من يحوز على المعرفة وبالتالي ملكة القرار الصائب.
المتتبع للشأن الداخلي الفلسطيني لا يمكن له ان يقفز عن ماض كانت فيه هذه الأحزاب وما تمثله من إرث نضالي وتاريخ عريق في مقارعه الاحتلال وادواته وقيادة الساحة الفلسطينية سواء في الداخل المحتل او افي الشتات، والتي كانت بمفهوم الشراكة السياسية متوحدة حول برنامج وطني يشكل الحد الأدنى الذي يقبل به الجميع، هو ما أعطى هذه الفصائل الشرعية التمثيلية الوطنية نتاج التفاف واسع حولها ، ولكن ما أصاب الحالة الفلسطينية في العشر سنوات الماضية خصوصا من هيمنة واستحواذ أدى الى حالة التراجع والتردي واستفحال حالة اللامبالاة والإحجام عن العمل العام، السياسي والمجتمعي لدى الغالبية العظمى من الناس.
ولا يمكن التنكر لحقيقة ان التحوصل والتمترس خلف الأجندات والبرامج وحالة العداء والتطرف في المواقف والأفعال مع كل من يخالف الراي، كل هذه باتت السمة العامة للحالة الفلسطينية وبذلك طغى التناقض الثانوي الداخلي على التناقض الاساسي المفترض مع الاحتلال وبرامجه الاستيطانية وعدوانيته المتأصلة لوجودنا وبهت بريق برنامج التحرر الوطني امام واقع تشابكت واختلطت بل وتناقضت فيه مصالح طبقة مع مصالح الشعب وأصبحت الدعوات الى ضبط النفوس، والى تغليب لغة الحوار كلها غدت كلمات لأغنية قديمة ناشزة اللحن.
إن الخروج من هذه الحالة يتطلب إعدادا طويلا لإعادة برمجة الفكر الفلسطيني برمته وإعادة بناء منظومة ثقافية وأخلاقية جديده تتقبل الآخر وتعمل وتتعامل معه على قاعدة الشراكة في ألبناء لا على قاعدة التناحر والإلغاء،
رفع شعار الديمقراطية ليس بكاف طالما لم يتم ممارستها، فهناك من يدعي الإيمان بها باعتبارها لازمة تسهل القبول الاجتماعي، وهنا يأتي الحمل الأكبر على كل من يؤمن بالفكر الديمقراطي والتنويري إذ عليه ان يتجمهر أولا وان يجاهر بممارسة مفاهيم الديمقراطية والتعاطي بديناميكية مع الواقع المتجدد المتغير بأساليب تتناسب معه، فلا يمكن لخطاب جامد ان يعبر عن واقع متغير، هذا ضد قوانين الطبيعة، وهو بالأساس سبب الاغتراب بين الجمهور والأحزاب التي باتت أسيرة نصوص وكليشيهات وأدوات واشكال قيادة اقصتها عن واقع متغير لم تستطع مواكبته فظهرت لربما عن غير قصد، او بقصد، محتكرة للسياسة وللفهم الوطني.