غزة- محاسن أُصرف
لا يُراوح الحلم ببيت آمن يغمره دفء العائلة مُخيلة الفتى "عبد الله قديح" ابن العشرة أعوام من بلدة خزاعة جنوب قطاع غزة، ويتساءل الطفل بغضب:"متى ينتهي الإعمار وأعود إلى منزلي؟!".
هدم منزل الفتي "قديح" أثناء الحرب الأخيرة على قطاع غزة، ومنذ ذلك الوقت يتذوق مرارة التشرد من بيت لبيت، تارةً يقطن عند جدته لأمه في عبسان الكبيرة، وتارةً أخرى يأوي إلى بيتٍ استأجره والده بعد أن حصل على مبلغ مالي كـ بدل إيجار من الأونروا، لكنه ما يلبث أن يعود مجددًا إلى التشتت، ويُشير أن السبب لا يبعد عن عدم إيفاء والده بأجرة المنزل الجديد وبالتالي يُطردون، ويُتابع: "آخر ما توصلنا إليه العيش في كرفان لا يحمي من شمس الصيف ولا برد الشتاء لكننا مضطرون للتحمل".
عبد الله لم يجد بدا بالأمس من مشاركة والده في الاعتصام الذي نفذه المجلس التنسيقي لللقطاع الخاص في غزة، آملا في أن يجد صدى صوته ومئات المحتشدين في الاعتصام سبيلا للإجابة، يقول:"عامين مروا ونحن نحلم بأن نُعمر بيتنا لكن دون جدوى".
نفتقد أبسط مقومات الحياة
في الكرافانات، أو مساكن الصفيح كما يُسميها القاطنون فيها، لا شيء من مقومات الحياة الإنسانية يتوفر، الماء والكهرباء نادرا ما يجتمعان في آنٍ واحد، والأجواء الصحية مفقودة.
تقول المواطنة سميرة أبو جامع: "إن حلمنا بإعادة إعمار بيوتنا تبدد على مدارعامين من الانتظار"، وتُضيف أن التضييق الإسرائيلي وعدم وصول منح الدول الخارجية التي تعهدت بإعمار غزة، ناهيك عن تزاحم السلطة وحماس على السيطرة على تلك الأموال، كانوا أسبابا في حرمانها من حلمها، وحرمان أطفالها الخمسة من العيش بكرامة وفي ظروف صحية، مؤكدة أن جميع أطفالها خلال الصيف لم يسلموا من الأمراض الجلدية، وفي فصل الشتاء الماضي عانوا من نزلات البرد والتجمد نظرا لعدم وجود عوامل تدفئة.
تتمنى السيدة أن تنتهي أزمتها وكافة المشريون في الكرفانات وتعود أدراجها إلى بيتها بعد تعميره في منطقة الزنة، فتنشر فيها الفرح والدفء بين أطفالها، وتمنحهم تفاصيل الحياة الأسرية التي افتقدوها نتيجة التنقل بين البيوت تارة، والعيش في العراء تارة أخرى.
وبحسب الإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة الأشغال والإسكان فإن العدوان الأخير على قطاع غزة دمر ما يُقارب 150 ألف منزل، منها 11 ألف منزل دمرت بشكل كامل، ونحو 15 ألفا لا تصلح للعيش، فيما تم تأمين مبالغ مالية لإعادة إعمار 6,892 وحدة سكنية من البيوت المدمرة كليا، وبقيت 4.018 تنتظر على حافة الأمل لوصول تمويل الدول المانحة قريبا لإنهاء معاناتهم وتحقيق حلمهم بالعودة إلى حياتهم الطبيعية في منازل آمنة.
متى ينتهي التقشف
ليس الإعمار وحده المُعطل في قطاع غزة وفقا لسياسات الاحتلال وآليات الأمم المتحدة التي اختارتها وأصرت عليها في إنجاز عملية الإعمار، فالمنظومة الاقتصادية جميعها متهالكة والناس هنا تفشت بينهم أمراض الفقر وعلل البطالة بنسب غير متوقعة، وباتوا يعيشون على سياسة التقشف فلا يكادون يُدبرون إلا أساسيات الحياة.
"متى ينتهي التقشف؟" سؤال مَلَّ من عدم الإجابة عليه أحمد ابن الخمسة عشر ربيعا كلما بادر والده بشرائه ملابس جديدة لفصل الشتاء القادم، يقول أحمد: "لم يعد والدي يعمل، فصاحب الشركة سرحه وبقية الموظفين وخرج مهاجرا من غزة إلى الجزائر"، ويُضيف منذ ذلك الوقت نعيش حياة تقشف بالكاد يوفر احتياجاتنا الضرورية وأحيانا لا يُمكنه أن يوفر مصروفنا الجيبي للمدرسة.
ومن جانبه يؤكد نبيل أبو مصطفى أنه يقتات وأسرته على السلع المتناهية الصغر والتي لا يتجاوز سعرها في أغلب الأحيان الـشيكل الواحد، فإن احتاج إلى صلصلة لتحسين الطعام بدلا من الطمام مرتفعة السعر يلجأ إلى شراء باكيت صلصة بشيكل واحد، وإذا زاره ضيف يشتري عبوة قهوة لضيفه بشيكل، يقول: "إن تلك السلع أفرزها الفقر المتفشي بين الناس، وعدم قدرتهم على شراء الأحجام الكبيرة"، ويُشدد أنه في السابق لم يكن يبتاع إلا الكميات الكبيرة والأحجام المتوسطة والعائلية لكن تسريحه من العمل وفقده لمصدر دخله الأساسي جعله يُفكر في البدائل التي تُفر حاجة المنزل، وفي نفس الوقت تتناسب مع إمكانياته المادية.
وكان أبو مصطفى يعمل في أحد مصانع البلوك في قطاع غزة لكن سوء الأوضاع وعملية التقطير من قبل الاحتلال الإسرائيلي بإدخال الإسمنت إلى القطاع أدى بصاحب العمل إلى التوقف وتسريح بعض عماله- كما قال-، وأشار إلى أن خمسة عشر عاملا آخرين كانوا يُشاركونه العمل في المصنع باتوا يُعانون أوضاعا اقتصادية صعبة نتيجة توقف المصنع عن العمل.
وبحسب اتحاد الصناعات الإنشائية في قطاع غزة فإن المصانع التي تعمل في البناء تُقدر بـ 470 مصنعا تضم أكثر من 4000 عامل، الغالبية العظمى منهم تركوا العمل بسبب توقف المصانع عن العمل باستثناء فقط 10% منهم ما زالوا يعملون لصالح المشاريع الدولية والقطرية.