صوت على الهاتف: ألو
أنا: نعم
الصوت على الهاتف: أنت المواطنة نور موسى عامر حجازي (اسمي كما يرد في الهوية)؟
أنا: نعم صحيح. مين معي؟
الصوت على الهاتف: أنا الضابط "م.أ" من الأمن الوقائي وبطلب منك تتفضلي تشربي عنا فنجان قهوة
أنا بدهشة: خير؟
الصوت على الهاتف: حابين نعرف معلومات أكثر عن شغلك ومصادر التمويل وطبيعة عملكم عشان الترخيص. يعني حابين نعرف إيش بتعملي بلا مؤاخذة في البلد
أنا بدهشة وصدمة متزايدة: أنا بلا مؤاخذة بشتغل وما عندي مصادر تمويل – أنا شركة.
هذا ملخص مكالمة هاتفية حصلت فعلاً يوم الأحد، وانتهت دون الموافقة على تلبية الاستدعاء رغم ما يمكن أن ينتج عن ذلك من تداعيات.
والحقيقة أن مشاعر مختلطة اجتاحت جوارحي بعد تلقي المكالمة التي جاءت بعد قرابة الشهرين من تقديمي على طلب ترخيص مكتبي الخاص الذي يقدم استشارات وخدمات في مجال الإعلام والتواصل الاستراتيجي، حيث كنت قد كتبت مقالاً قبل شهر تقريباً عن الإجراء غير القانوني المعروف بالمسح الأمني أو السلامة الأمنية والذي يُمارس بشكل غير قانوني وعشوائي تجاه المواطنين المقدمين على فتح شركة خاصة بهم في الغالبية الساحقة من المجالات.
أول هذه المشاعر كان الاندهاش. ثم انهال سيل من الأسئلة الملَحة الصاخبة في ذهني: هل يعقل أن الأمن الوقائي بحاجة لشهرين حتى يأتيني بأسئلة من هذا النوع؟ ألا تكفي هذه المدة لمعرفة كل ما يمكن معرفته عني والوصول إلى الاستنتاج المنطقي أنه لا يوجد ما يمنع من أن أمارس مهنتي بسلام؟ هل يعقل أن ستين يوماً من التحري لم تفضِ إلى معرفة عنواني وعدد الموظفين في شركتي وطبيعة عملي؟ رغم أن هذه المعلومات موجودة في الطلب؟ ثم ماذا كان يعني الضابط "م.أ" بقوله: "نريد أن نعرف طبيعة عملك وشوبتعملي في البلد بلا مؤاخذة"؟! هل أنا متهمة بشيء ما؟ أم أنه مشتبه بي لا سمح الله؟ وما يمكن لهم الاشتباه به؟ فكل ما أفكر به أكتبه وأنشره على الملاء... ثم جاء الجواب: أنت تكتبين وما من أحد منهم يقرأ! ولكن ألا يقرأون ما هو موجود من أوراق رسمية تحمل اسمي وسيرتي الذاتية؟! لا جواب...
في البلدان المستقرة، يعمل الأمن بلا كلل على حفظ الأمن والاستقرار من التهديدات الخارجية والداخلية دون المساس بكرامة المواطن وإحساسه بالحرية طالما هو لم يتعدى على حقوق الآخرين أو يخرق أياً من القوانين. كرامة المواطن لا تقتصر على عدم التعرض له بالإهانة اللفظية أو التعدي الجسدي، فالكرامة للمواطن تعني أن أجهزة الدولة – وخاصة الأمنية منها – تتعامل معه باعتباره صاحب السيادة والمرجعية الديمقراطية وتتصرف بما يملي عليها القانون من احترام له ولحقوقه وأبسط هذه الحقوق الحق في كسب لقمة العيش.
للأسف الشديد، في فلسطين هناك من أوهم نفسه وصناع القرار أن التعامل مع المواطن باعتباره مشتبها به حتى يثبت العكس، والتعدي بفظاظة على مساحة حياته هو السبيل لتحقيق الأمن.
والمشهد رغم طبيعته المزعجة لا يخلو من السخرية، حيث راودني بعد الانتهاء من أسئلة ذهني شعر أحمد مطر الذي قال فيه:
تهتُ عن بيتِ صديقي
فسألتُ العابرين
قيلَ لي امشِ يَساراً
سترى خلفكَ بعض المخبرينْ
حِد لدى أولهمْ
سوفَ تُلاقي مُخبراً
يَعملُ في نصبِ كمينْ
اتَّجِهْ للمخبرِ البادي أمامَ المخبرِ الكامنِ
واحسبْ سبعة، ثم توقفْ
تجدِ البيتَ وراءَ المخبرِ الثامنِ
في أقصى اليمين
حفِظَ اللهُ أميرَ المخبرينْ
فلقدْ أتخمَ بالأمنِ بلادَ المسلمينْ
أيها النّاسُ اطمئنوا
هذه أبوابكمْ محروسة في كلِّ حينْ
فادخلوها بسلامٍ آمنينْ
* * *
في بلادنا، يعتقد رجل الأمن أن وجوده الصارخ في حياتنا قوة، وأن مجاهرته بالتدخل في تفاصيلها يضمن له النجاح وللبلد الأمان. لكن الحقيقة هي أن هذه العقلية هي التي تنفر الناس من المنظومة كلها، وتدفعهم للكفر بكل ما يُقال عن المواطنة والحقوق والحرية؛ لأنها وبعد مكالمة من هذا النوع، تصبح زينة رخيصة وبالية لبضاعة رديئة اسمها العقد الاجتماعي كما يراها الضابط "م.أ" ومن فوقه من رتب...
لن ألبي الاستدعاء الهاتفي الذي أتاني، والمولود من إجراء غير قانوني ينتهك أبسط مفاهيم المواطنة لدي، ويضرب بعرض الحائط كل القيم التي تلخص وطني في عقلي، وأولها الحرية والكرامة. لن ألبي الاستدعاء ليس لأني فوق القانون بل لأني أحترمه وأجله وأعتبر موقفي هذا وكلماتي هذه دفاعاً عنه وعن وطني الذي أريد. فيا هذا الذي يعتقد أنني طارئة في الوطن وأن حياتي ورزقي يقفون على تقييمكم للخطر الذي لربما أشكله على وطني في حلم أحدهم، توقف قليلا وفكر... هل هذا وطن الأحرار الذي شيد بالتضحيات والدماء؟