الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سقَطَ " حريكا" في يوم بلفور/ بقلم: طارق عسراوي

2016-11-08 09:18:23 AM
سقَطَ
طارق عسراوي

 

في قريتنا الصغيرة مدرسة ابتدائية تجذب اليها كل الدارسين من القرى المجاورة، نتقاسمها مناصفة بين فترة صباحية للبنات ومسائية للأولاد. في الفترة الصباحية كان الالتزام عال بالدوام، فالطالبات مواظبات على الدراسة بعكسنا نحن الأولاد، حيث لم نكن نترك سببا شاردا أو واردا من أجل التعلق به، وإعلان الاضراب الدراسي ومن ثم مغادرة المدرسة اما لألعابنا واما لأعمالنا، تلك احدى سمات مدرستنا في سنوات الانتفاضة الأولى، ويمكنني القول سمات المدارس كلها.

 

وكان بعض التلاميذ يجلسون قبيل بدء الحصة الأولى يبحثون عن سبب وطني عام يغضبون لأجله، فيتساءلون اذا ما سقط شهيد من غزة إلى جنين في ذلك النهار، أو أن يصادف في ذلك اليوم مناسبة ما عند أي من الفصائل فيؤازره الطلاب بإعلان الاضراب الدراسي!

 

في الثاني من نوفمبر، تجمع عدد من الطلبة، تلثموا بالكوفية، وصاح احدهم كلمة السر بصوت عال (( إإيييي إإييي )) يعني ذلك ان هذا الصوت سينتقل من حنجرة إلى أخرى حتى تلتهب به حناجر الطلاب في داخل صفوفهم فتصير الصيحة واحدة ترتج في كل المدرسة وبعدها يخرج الطلاب في مسيرة جماعية يهتفون بالشعار الداعي لانهاء ذلك اليوم الدراسي، ويومها كان الشعار:  " يسقط .. يسقط وعد بلفور" .

 

" حريكا " كنا نناديه بهذا الاسم دلالة على اشتعاله الدائم واتقاده كالجمر ولكن لساننا خفّف من القاف حتى صارت كافاً، هو مسكينٌ من قريتنا يأتي ليجلس بباب المقهى الواقع في طريق المدرسة، بعد ان يجوب الازقة والسوق، وحين تمر المسيرة من امامه يجد فيها فرصة فريدة لاستئناف حركته الدؤوبة فينضم للمسيرة الطلابية ويهتف بما يهتف به الأولاد، وللحقيقة، أن حريكا كان يضفي طابعا حماسيا للشعار بصوته الخشن العالي الملتهب، فيهتف من قلبٍ ورَب حتى يزبدّ فمه ونلقاه قد تقدم المسيرة وصرنا جميعا نهتف مرّةً له ومرّة خلفه!

 

في تلك المسيرة على وجه التحديد، وقف حريكا مترددا من الانضمام للمسيرة، وبعد تردد واضح اقترب من الولد الذي يتقدمها ويهتف داعيا لسقوط وعد بلفور يسأله : شو هو وعد بلفور هاد ؟

-      اللي أنا بعرفه إنه بسبب بلفور سرقوا منا الأرض، بس انت ايش بدك بهالقصة يا حريكا خلص انت اهتف زينا وردد يسقط وعد بلفور.

 

سار حريكا مع المسيرة على غير عادته مترددا، صامتاً، متباطئ الخُطا !!

-      حريكا .. ايش مالك ساكت !! ردد معنا يسقط وعد بلفور انت صوتك عالي.

 

راح حريكا ينظر إلى الأعلى كلّما نادى بسقوط بلفور كأنه يتفحص فيما إذا سيسقط أحدهم من الأعلى  !!

 

سارت المسيرة باتجاه حاجز نصبه جنود الاحتلال عند مدخل القرية، كان حريكا قد اشتعل تماما حين رأى الجنود، وفي منظار بندقيّة أحدهم كانت شارة النصر التي يرفعها خفّاقة، وبدا سيّد المسيرة وموجهها حيث كان واضحاً بأنه أكبر المتظاهرين سنّاً وأكثرهم انفعالاً.

 

سقط حريكا برصاصةٍ اخترقت صوته، وكوّمته في مدخل القرية، لم يستطع الصغار حمل جثمانه الثقيل بعيداً، الا أنهم تصدوا بقوّة لمحاولات اعتقال الجثمان، أصيبوا واختنقوا وسقط منهم آخران لكنّهم صمدوا.

 

اليوم في مدخل القرية، وُضِع حجرٌ لتخليد شهداء ذلك اليوم كتب عليه اسم حريكا تحت عبارة " يسقط وعد بلفور "، ولم يعد ذلك الوعد مجهولاً لأيٍ من التلاميذ .. فهو اليوم الذي سقط فيه " حريكا ".