الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"كوانتوم" لـ الروائي أحمد أبو سليم

مقطع من الرواية

2016-11-08 12:31:03 PM
أحمد أبو اسليم

 

لا يمكن للصِّفر أَن يكون صفراً بالمعنى المفهوم للكلمة، فالصِّفر هو شيء، واللاّشيء هو لا شيء، وإلاّ كيف نفسِّر أَنَّ اللاّشيء بوسعه أَن يصبح شيئاً إذا أُضيف لرقم ما، أَو عدد، فيرفع قيمته عشرة أَضعاف؟ أَو يقلِّل من قيمته عشرة أَضعاف إذا أُضيف خلف فاصلة؟

 

الصِّفر هو ما اصطُّلح عليه أَن يسمَّى صفراً، وهو خطأُ البشر الممتدِّ منذ آلاف السَّنوات، ولا يريدون حتَّى اللَّحظة أَن يعترفوا بهذا الخطأ.

 

الصِّفر هو خطيئة العرب، وكان علينا أَنا والأُستاذ، أَن نعيد تعريفه من جديد، أَن نصحِّح ذلك الخطأَ الأَزليَّ الَّذي اقترفناه نحن العرب، ونصحِّح معه مسار التَّاريخ.

 

ثمَّة عنق للزُّجاجة علينا أَن نعبره، الأُستاذ، وأَنا.

 

إن كنَّا نحن أُولئك القوم الَّذين يعيشون في بعدين فقط، ولا يرون البعد الثَّالث، أَلا وهو الارتفاع، وإن كان الاحتلال يعيش الأَبعاد الثَّلاثة ويراها، فذلك يعني بالضَّبط، أَنَّ ثمَّة بعداً لا نراه، وهو يراه، فنعتقد بذلك أَنَّه ساحر، حاو، أُسطوريٌّ، خارق، عبقريٌّ، لا يُهزم، وعلينا فقط، لكي نخرج من دوَّامة المعرفة أَن ندخل في البعد الثَّالث، ونراه، وندرك وجوده، لكي نرى كم أَنَّ الأَمر سخيف، ومضحك.

 

سيخرج إن حشرناه، وحاصرناه، سيخرج من البعد الثَّالث دون أَن نشعر به، أَو نراه.

 

ذلك البعد بالذَّات، كان عقدتنا، الأُستاذ، وأَنا.

 

قد يبدو الأَمر جنونيَّاً، وتخريفاً، قد يبدو كذلك، ولكنَّ الكوانتوم كلُّه يبدو تخريفاً، ومع ذلك فهو حقيقة رغم أَنف أَينشتاين، رغم رفضه، رغم صيحته الَّتي ردَّدها مئات العلماء من بعده عبر مئة عام، وأَكثر، "إنَّ الله لا يلعب النَّرد".

 

ثمَّة كوانتوم بشريٌّ نتوارثه جيلاً بعد جيل، كوانتوم الأَنبياء الَّذين نغلِّفهم بغلالة من المعجزات، الَّتي هي في الحقيقة ليست إلاّ كوانتوماً حقيقيَّاً، ملموساً، كوانتوم إبراهيم حين أُلقي به في النَّار، وكوانتوم المسيح حين صلب، وحين بعث، وكوانتوم محمَّد حين أُسري به وعرج إلى السَّماء...كوانتوم الأَنبياء الَّذي نردِّده كلَّ يوم دون أَن ندري ماذا يكون، وكوانتوم هند الَّذي لا يفسِّره عقل بشريٌّ أَبداً.

 

ما الَّذي نريده بالضَّبط؟

نحن نعيش احتمالات قطَّة شردونغر، في صندوق مغلق يُسمَّى القدس، نعيش مع ذبذبات، وأَلياف ضوئيَّة لا يدرك كنهها أَحد، تؤثِّر على طريقة تفكيرنا، وعلاقتنا بكلِّ ما حولنا، وتغلِّب احتمالات الموت على احتمالات الحياة.

 

نحن أَحدى احتمالات المدينة المفترضة، وهم يعرفون ذلك تماماً، يعرفونه، لذا، حتَّى قبل بدء الاحتلال راحوا يمسحون الذَّاكرة، ويمطروننا بشتائهم السريِّ كي يقضوا على كلِّ احتمال لنا مفترض في المدينة.

 

كوانتوم البشر!

 

في البلدة القديمة، خلف السُّور، بشر يحملون المدينة بين ضلوعهم، أَو على أَكتافهم، أَجسادهم خضراء من أَثر الطَّحالب على الهواء، يسندون السَّماء برؤوسهم كي لا تسقط فتسحق المدينة ومن فيها، وأَطفال مصابون بداء القلق والانتظار، وبيوت تئنُّ من أَثر التَّعب، والزَّمن.

 

كم عام نرتق الصُّدوع بالأَسمنت المهرَّب في الجيوب، وفي علب السَّجائر!

 

كم عام نُذيب الأَسمنت سرَّاً بالماء، وصدوعنا تتَّسع في صدورنا، تفتح أَشداقها وتكبر!

 

ثمَّة صفر كامن بين النَّقيضين، وهو ليس بنقطة كما يتبادر للذِّهن، الصِّفر هو عالمٌ رباعيُّ الأَبعاد، وهو ليس أَصمَّاً قادراً على العزل الأَصمِّ بين النقائض، إنَّما نفوذاً يترك مجالاً ما للتَّداخل. والضَّوء عبر المنشور، وبرزخ الماء دلائل ساطعة على ذلك.

 

إنَّ وصف الصِّفر بالنُّقطة على خطِّ الأَعداد الدِّيكارتيِّ هو الَّذي جعل تخيُّل المكان الَّذي يحمل أَكثر من ثلاثة أَبعاد مستحيلاً.

 

ما الَّذي جعل الصِّفر نقطة ارتكاز؟

 

للصِّفر مدى تتحرَّك فيه، وحين يجذبك وتدخل فيه، تكتشف أَنَّك كنت عاجزاً عن الرؤية تماماً قبله، ينقشع الضَّباب، تزول العتمة، ويصبح بوسعك أَن ترى ما لا يمكن للبشر أَن يروه، وتدرك ما كان من المستحيل أَن تدركه خارج الصِّفر.

 

 هل يبدو الأَمر جنونيَّاً؟ ما الَّذي لا يدعو الآن للجنون إذن؟ ما الَّذي لا يميل إلى الجنون؟ ما هي العقلانيَّة بالضَّبط؟ ربَّما قد تكون العقلانيَّة هي المنهج الَّذي اختاره النَّاس، وراكموه، عبر آلاف السَّنوات، فصار هو القانون، ربَّما تكون كذلك، لكنَّها مع ذلك، تتغيَّر ببطء، دون أَن يلتفت أَحد إلى ذلك.

 

كانت افتراضات كوبيرنيكوس، وجاليلو مجرَّد جنون، ذات يوم، حتَّى سقراط، أُعدم لاَنَّ أَفكاره خرجت عن المنطق المفهوم، وكان الخروج على نظريَّة بطليموس الحمقاء، جنوناً، مع أَنَّ الجنون كان هو النَّظريَّة بحدِّ ذاتها، ولم يكن ثمَّة من هو قادر على فهم ذلك.

 

اليوم تختلط الأُمور، وتتداعى كذبة الحقيقة، كذبة التَّاريخ، كذبة الواقع، كذبة الوجود، كذبة المنطق، أَعني منطق أَرسطو المبهم الَّذي درَّب العقل على الكسل.

 

اليوم تبدأُ رحلة أُخرى....رحلتنا في الصِّفر..في التَّوازن الأَزليِّ الَّذي لم نكن لننتبه لوجوده، لا أَنا، ولا الأُستاذ، لولا أَنِّي تذكَّرت حكايات أُمِّي عن جدِّي، يوم أَلقوا القبض عليه، وراحوا يعذِّبونه لكي يعترف بأَنَّه جاسوس، فاعترف بأَنَّه كان يحرس الموتى.

 

وقفتُّ فجأَة مذهولاً أَصرخ في الأُستاذ، والأُستاذ لا يصدِّق ما أَكتب، ولا ما أَقول.

 

كلُّ شيء قد انتهى الآن، من أَين لأَحد أَن يفهم آنذاك ماذا كان يقول؟ كوانتوم، كان يقول كوانتوم حين مات دون أَن يلفظ الكلمة بالضَّبط، من أَين للضَّابط آنذاك أَن يفهم ما كان يقوله جدِّي حين قال بأَنَّه يحرس الموتى؟ وكيف؟

 

أَدركتُ فجأَة أَنَّنا نقامر بأَعمارنا، نظرتُ إلى الأُستاذ حكمت، إلى شعره الأَبيض، وجسده المترهِّل، ونظَّارتيه المتشقِّقتين، وملابسه الرثَّة، وابتسمت...فابتسم..كان يقرأُ ما أَكتب، وقد فهم كلَّ شيء.

 

الآن صار بوسعنا أَن نقوِّض الحقيقة الَّتي اتُّفق على أَن تكون حقيقة ذات يوم، الآن صار بوسعنا أَن نغامر وندخل في عالم آخر...عالم الكوانتوم....كان الأَمر أَكثر من معجزة، لكنَّه كان حقيقيَّاً، وممكناً، وقابلاً للتَّطبيق.