مع انتخاب دونالد ترامب الجمهوري رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية؛ يزدحم الفضاء الإعلامي بالتكهنات حول المنحنيات والاتِّجاهات المحتملة التي ستسلكها مراكب السياسة الخارجية الأمريكية تحديدا على نحوٍ جوهري - أو هكذا يُخيَّلُ للبعض على الأقل - غائباً عن ذهن الجميع جملة من الحقائق والعوامل الجوهرية التي تشُدُّ حبال أشرعة السفينة الأمريكية العملاقة ومرساتها على الدَّوام وتوجهها مع اتِّجاهات رياح مصالحها البريغماتية الأساسية الِّتي تهبُّ من وراء داخل عمق السواحل الأمريكية - أيّْ من ضرورات الدَّاخل الفدرالي الأمريكي - بمعنى ما تكتسبه السياسة والبرامج الاقتصادية والاجتماعية الفدرالية من أهميَّة قصوى في الأساس وقبل كل شيء؛ مُتَّصِلٌ ذلك بحجم تأثير ودور المؤسسات المتعددة الناظمة لتلك السياسات بشكل تداخليٍّ تفاعليٍّ تراتبيٍّ تكامليٍّ على أساسٍّ دستوريٍّ فدراليٍّ يضعُ ويرسم الحدود بما لا يجعل صلاحيِّات الرئيس الأمريكي مطلقة.
ذلك ينقلنا للحديث عن تلك المؤسسات النِّاظمة للسياسة الأمريكية داخلياً وخارجياً على حدٍّ سواء والتي تنتظم على قاعدة ما يحدده الدُّستور الأمريكي - أصغر دساتير العالم من حيث عدد موادِّه، والذي يخصُّ أكبر وأضخم عملاق اقتصادي رأسمالي إنتاجي إستهلاكي وعسكري عرفه التَّاريخ حتِّى الآن !!.
تلك المؤسسات هي: مؤسسة الرئاسة - البيت الأبيض - والكونجرِس بمجلسيه - مجلس الشيوخ والنُّواب - والمحكمة الدُّستورية العليا - كأعلى وأرفع هيئة قضائيَّة - وكذلك المؤسسات الأمنية الاستشاريَّة والتَّنفيذيَّة، بما فيها طواقم البنتاغون والإف بي آي وغيرها من المنظومات والإدارات الأمنية المتصلة بالإدارة الأمريكية أو التابعة مباشرة للمكتب البيضاوي.
بهذا المعنى يمكننا فهم مغزى مصطلح - الإدارة الأمريكية - المُتَداول كمصطلحٍ سياسيٍّ على نحوٍ فريد؛ وهو ما يميِّزُ النِّظام الرِّئاسي الأمريكي عن باقي الأنظمة الرِّئاسيَّة كونه نظاماً رئاسياً غير برلمانيّ أساساً؛ بمعنى أنِّ الأغلبيِّة في مجلسي الشيوخ والنُّواب تأتي بمعزلٍ عن آليَّات واتِّجاهات ونتائج الانتخابات الرِّئاسيِّة؛ فقد يكون الرئيس جمهوريِّا والأغلبيِّة ديمقراطيَّة، والعكس صحيح بطبيعة الحال.
لقد انتظمت السياسات الأمريكيَّة تاريخيَّاً بجملة من المبادىء التي عُرِفَتْ بأسماءِ الرُّؤساءِ الِّذين أطْلِقَتْ تلك المبادىء في عهْدِهِمْ؛ كمبدأ الرِّئيس الأمريكي الخامس " مونرو ١٨٢٤ - ١٨٢٨" الِّذي نظِّم العلاقات مع أوروبا؛ مع بدءِ امتداد النُّفوذ الأمريكي وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على جنوب القارَّة الأمريكيَّة احتكاريَّاً وانفراديَّاٌ بمعزلٍ عن القوى الأوروبيِّة التقليديَّة حين ذلك. وهناك مبدأ هاري ترومان ومبدأ آيزنهاور اللَّذان أرْسَيَا قواعد وطبيعة التَّعامل والعلاقات الأمريكيَّة مع أوروبا والعالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبداية عهد الحرب الباردة، وذلك على قاعدة علاقات ما تفرضه مفاعيل القوَّة ومُؤَدَّياتِ الهيمنة كنتيجة من نتائج علاقات القوَّة. وقد جاءَ عهد الرئيس الدَّيمقراطي السابق - باراك أوباما - بفترتين رئاسيتين وبما مثَّلَ من مظاهر انكفاءٍ نحو الاهتمام بقضايا الدَّاخل - وقد مرَّت دستوريَّاً واستقرَّت تقليديَّاً أثناء فترة رئاسة أوباما - كدالَّةٍ مبدئيَّةٍ حتَّى أمَدٍ طويلٍ - ربَّما - على ما ينبغي انتهاجه من سياسات خارجيَّة استرتيجيَّاً وعلى المدى البعيد؛ وبما يَصْعُب التراجع عنه بشكلٍ حاسِمٍ وجوهري في عهد الإدارة الجمهوريَّة العتيدة برئاسة دونالد ترامب.
من هنا يمكننا القول: ربما لن يكون هناك تغييرات جوهرية استراتيجية حاسمة في فترة رئاسية جمهورية واحدة تمتد على الأقل أربع سنوات؛ لكنًَّها يمكن أن تُشَكِّلَ أساساً لمراجعة سياسات الإدارة الديمقراطية السابقة في أثناءِ فترة رئاسية جمهوريَّة ثانية تبقى محتملة في قابل السنوات بكل الأحوال.