جميعنا يعلم مدى تلك الثورة الإعلامية ( التفاعلية ) التي أحدثتها في المجتمعات المختلفة في السنوات الأخيرة ما اصطلح على تسميتها ( مواقع التواصل الاجتماعي ) ، حتى كان لها تأثيرها الجمّ في مناحي كثيرة من مناحي الحياة . فعلى المستوى الثقافي مثلاً ، نرى أن الشاعر أو الكاتب أو رجل الدين أو العالم في أي علم من العلوم قد ازدادت إمكانيات وصوله إلى الجمهور أفقياً ، أي أنه استطاع أن يزيد عدد جمهوره الذين يمكن أن يقرؤوا ما يكتب وهم الذين يمكن أن يزدادوا باطّراد في أقطار الدنيا ، وعمودياً حيث أصبح بإمكانه أن ينشر كمّاً متراكماً من النصوص المكتوبة أو المنشورات الأخرى بالمقدار الذي يحدده مداد قلمه وبنات أفكاره ، وبذلك تكون هذه المواقع قد تفوقت في هذا المجال على الصحافة المطبوعة التي غالباً ما تكون محدودة جغرافياً ، وعلى الصحافة المرئية والمسموعة أيضاً لاعتبارات عديدة .
وبناء على ذلك لا عجب في أن أضحت مواقع التواصل الاجتماعي عند الكثيرين هي الوسيلة الإعلامية الأولى التي يستقي منها الأخبار ، وتؤثر على أفكاره ومواقفه عند اتخاذ القرار ، وخاصّة أن هذه المواقع توفر للمرسل والمستقبل إمكانية التواصل المباشر بسهولة ويسر ، أكثر من أية وسيلة أخرى ، وهذا ما أكده المتابعون للانتخابات الأمريكية الأخيرة ، وأوردُ على ذلك مثلاً ، أن المرشح الجمهوري الفائز في الانتخابات ( ترامب ) عندما صرح برغبته في منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة جاءته موجة عارمة من ( التغريدات ) التي شكلت أداة ضغط رئيسة عليه للتراجع عن تصريحاته .
إن هذا المثل ، وغيره من الأمثلة التي يمكن أن تساق ، يجعلنا نؤمن أن وسائل التواصل الاجتماعي ، وإن كانت انطلاقتها تتناسب مع هذه التسمية ، إلا أن هذه التسمية قد ضاقت عن أن تستوعب دورها الذي تقوم به في الحياة حاليّاً ، مع تطور هذا الدور على الصعيد الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي وغير ذلك من المجالات ، وبذلك فإنني أرى أن التسمية المناسبة لدورها قد تغيرت من مواقع ( التواصل الاجتماعي ) إلى ( مواقع التفاعل الاجتماعي ) أو ( التفاعل المجتمعي ) إن قصدنا الدّقة في الوصف ، فالتفاعل هو مصدر الفعل ( تفاعل ) ويعني المشاركة في ( الفعل ) وليس في القول والخطاب فقط الذي قد يفهم من التسمية الأولى ، وهو تفاعل ( مجتمعي ) أيضاً لأنه ينخرط فيه أبناء المجتمع أو المجتمعات في العمل على الرفع من شأن مجتمعاتهم وفي مناقشة قضاياها ، وبذلك يتضح بأن الفارق في التسمية ليس هو المقصود لذاته ، بل لأنه يعكس الفرق في معنى الرسالة التي تؤديها كل من هاتين التسميتين .
ولزيادة التأكيد على ما لـ ( مواقع التفاعل الاجتماعي ) من الدور ( الفعلي ) على أرض الواقع ، فإنني لن أكتفي بالمثال الأمريكي سابق الذكر ، بل سأحطّ في بلادنا العربية التي كان لمواقع التفاعل الاجتماعي فيها الدور الحاسم في حشد الجماهير للمشاركة في الفعاليات والمسيرات التي شهدتها بلدان ( الربيع العربي ) بغضّ النظر عن الزاوية التي ينظر من خلالها كلّ منا إلى هذه الأحداث . ولهذا فإن بعض الدول على مستوى العالم قد وعت جيداً ما يمكن أن تحدثه مواقع ( التفاعل ) هذه من ( الفعل ) ، فلذلك سعت إلى احتوائها قبل أن يخرج المارد من القمقم . فالصين مثلاً ، كما تعرفون ، قد أوجدت ( مواقع تفاعل ) ولا أقول ( تواصل ) بديلة ، يمكن من خلالها مراقبة ما يجري من خلال هذه الوسيلة الإعلامية التي ثبت أنها ألقت بوسائل الإعلام التقليدية المطبوعة والمرئية والمسموعة أرضاً في أكثر من بلد ، وفي أكثر من حدث ، ألم تروا معي مثلاً ـ ونحن نتحدث عما جرى في بعض البلدان العربية ـ أن وسائل الإعلام التقليدية في هذه البلدان التي كانت تُسبّح بحمد الحاكم وتقلل من شأن التجمعات والفعاليات الشعبية المواكبة ( للربيع العربي ) وتحرض عليها لم تفلح في الصمود أمام سطوة مواقع ( التفاعل الاجتماعي ) وهجومها الكاسح على عقول الجماهير وقلوبهم ، فتقاطرت هذه الجماهير فرادى وزرافات إلى ساحات الاعتصامات ؟! وعلى الطرف الآخر من واقعنا السياسي ، ألم تروا معي أيضاً أن هذه الحقيقة لم تكن بعيدة عن صنّاع القرار في الدولة العبرية المحتلة عندما خصصت في المدة الأخيرة فريقاً لمتابعة هذه المواقع ومستخدميها ، تمهيداً لحجب ما تشاء منها ، ولمعاقبة من تشاء من مستخدميها ؟!
والآن ، وبعد أن استذكرنا معاً ما لمواقع التفاعل الاجتماعي من الأهمية ، يتبادر إلى أذهاننا السؤال الآتي : هل نقوم نحن كمستخدمين عرب لهذه الوسيلة باستخدامها الاستخدام الأمثل ؟
وللإجابة على هذا السؤال يمكن أن نجيب بـ ( نعم ) كما يمكن أن نجيب بـ ( لا ) ، وذلك حسب المستخدم وكيفية الاستخدام ، وخاصة أن هذه المواقع وفّرت لكل شخص من صغير أو كبير ، غني أوفقير ، عظيم أو حقير إمكانية أن تكون له وسيلته الإعلامية الخاصة ، حتى الطفل الذي في المرحلة الدراسية الأساسية . وهذا أدّى إلى حقيقة وجود عدد كبير من المستخدمين الذين يستخدمون هذه الوسيلة للتفاعل مع الواقع الذي يعيشون فيه من خلال منشورات متنوعة تتضمن النصوص المكتوبة والمقاطع المرئية والمسموعة التي تشير إلى موقف من المواقف أو تظهر حدثاً من الأحداث أو تناقش قضية من القضايا ، أو تنقل إلى عقل المتلقي مادة ثقافية أو علمية تلامس الوجدان وتغذي العقل وتقوي المعرفة. وإلى جانب هؤلاء ،هنالك عدد آخر من المستخدمين ، وهو الأكبر وللأسف الشديد ، يستخدمون هذه المواقع استخداماً ( عبثياً ) إن جاز التعبير ، كالذي ينشر صورة ( صينية الكوسا المحشي ) وهو يتناولها مع الأهل والأصدقاء ، وهنالك نوع ثالث من المستخدمين ، ولعلهم الأقلية لحسن الحظ ، وهم أولئك الذين يستخدمون هذه المواقع استخداماً ( مقيتاً ) في الذم والقدح والتشهير وإذكاء نار الفتنة بين فرد وآخر أو بين جماعة وأخرى ، ( وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا ) كما تقول الآية الكريمة .
وخلاصة القول ، كم كنت أتمنى ، كما يتمنى الكثيرون غيري ، أن نعيد النظر في فهمنا لأهمية ورسالة مواقع التفاعل المجتمعي ، واختيار التسمية الدقيقة يساعد بالتأكيد على إعادة صياغة مفهومنا لرسالة هذه المواقع . وهذا ما سيقود المستخدم العربي إلى التخفيف من الاستخدامات العبثية والمقيتة لهذه المواقع ، ولأن يحرص على استخدامها الاستخدام الأمثل في الرفع من شأن المجتمع وفي مناقشة قضاياه والدفاع عنها ، وخاصة أنه بات يعرف حقّ المعرفة ما لمواقع التفاعل الاجتماعي ( أو المجتمعي ) من التأثير ، حتى أصبحت تتحكم في مصائر شعوب وخرائط أقطار وأنظمة دول !