كان المثقف ودوره موضوعاً مطروحاً للنقاش على الدَّوامِ - وما يزال - منذ جان جاك روسُّو ومنذ عهد جون لوك ونيتشه، مروراً بما قدَّمه الفيلسوف الإيطالي "أنطونيو غرامشي ١٩٣٧ - ١٨٢١"، وصولاً إلى ما أنتج المفكر "إدوارد سعيد " من مفاهيم ورؤىً حول المثقف ودوره في مؤلَّفاته العديدة وأبرزها، حوارات والاستشراق والثَّقافة والإمبرياليَّة .
يرى أنطونيو غرامشي أن جميع النَّاس مثقَّفين؛ إذا أخذنا مفهوم الثقافة بكونه عملية وآليَّة - أو ميكانيزم - إنتاج نشاط ذهني حيوي وتفاعلي اجتماعي مرتبط أو سابق لعلاقات الإنتاج في المجتمع فحسب.
ووفق ما يرى غرامشي فإن الثقافة كمستوىً من مستويات المعرفة وكنشاط ذهني حيوي - يتوفَّر لجميع النَّاس - تفقد دورها ومعناها وتنحرف بمفهومها كأداة تغيير إذا لم تحمل المثقَّف الذي يتلقَّاها وينتجها - في آنٍ معاً - على التمرُّد على سلطة الدَّولة؛ والتَّمرُّد على الدَّولة وفق غرامشي ليس معناه خرق القانون أو خرق النِّظام العام، بل هو التمرُّد على ما تفرضه مجموعة المصالح الذَّاتيَّة والآنيَّة الطَّارئة والأنانيَّة التي تعود لمؤسَّسات المجتمع السِّياسي وهياكله البنيوية الفوقيَّة والتراتبيَّة البيروقراطيَّة.
وكان غرامشي قد قدَّم قبل ذلك مفهومه للمُجْتَمَعَيْنِ المدنيِّ والسِّياسيِّ على نحوٍ أكثر تفصيلاً مِمَّا مضى من أفكارٍ حول هذين المفهومين؛ فقال: "إن المجتمع المدني هو مجموعة العائلات، والعلاقات الفرديَّة، والنَّقابات، والهيئات الأهليَّة، والمدارس، ومؤسَّسَات التَّعليم، وعلاقات الإنتاج التبادليَّة القائمة خارج نطاق ما تفرضه ضرورات السلطة، وما يرتبط بها من جماعات مصالح".
فيما المجتمع السياسي يتكوَّن من الدولة بمؤسساتها البيروقراطيَّة وبُناها الفوقيَّة والتَّحتيَّة والتراتبيَّة، وأجهزتها الوظيفيَّة المرتبطة بها مباشرة، وكذلك أجهزة أمنها وجيشها، وحتَّى ما ينشأ في ظلِّ وجود الدَّولة، وتَرَسُّخِ تقاليد وقواعد الحكم فيها من برلمانات وبرلمانيين وحياة برلمانيَّة تكون - وفق غرامشي - جزءا من المجتمع السياسي وليس المدني، وذلك مع ضعف ولاء مؤسَّسات الحياة البرلمانيَّة للمجتمع المدني لحساب المجتمع السياسي وذلك نزولاً عند ما تفرضه منظومات علاقات المصالح النَّاشئة بين الأفراد والمجموعات والأحزاب - الذين ينتقلون من المجتمع المدني إلى السياسي بفعل آليَّة التفاعل المستمر - والدَّولة في بيئة تبادل المنافع.
وثمَّةَ فاصل بين المجتمعين يجب أن يبقى قائماً، ومسألة بقائه وترسيخه وترشيده هي مهمة المثقف ومهمة وهدف ما ينتجه من ثقافة وفق غرامشي. وعندما يضعف انتماء وولاء المثقف للثقافة التي يتلقَّاها من مصادرها المعرفيَّة الموضوعيَّة المستقلَّة، وتنتقل عملية إنتاجها مُجَدَّداً كعمليَّةٍ ذهنيَّة أدبيَّاً ومعرفيَّاً من صالح المجتمع المدني وبما يحتاجه من حريَّات على مستوى المفاهيم النَّظريَّة والممارسة العمليَّة وبما يتطلبه من حقوق أصليَّة وأساسيَّة بمنىءً عمَّا تمليه السُّلطة، وعندما يتحوَّل دوره إلى عكس ذلك؛ فإنَّ المثقف يتحوَّل إلى موظَّف لدى السلطة يطَّلع بمهمة تسويغ وتبرير أفعالها ليس إلَّا، مهما تظاهر بغير ذلك.
يتَّفقُ إدوارد سعيد مع غرامشي في كثيرٍ من المفاهيم التي قدَّمها حول دور الثقافة والمثقَّف، ويضيف إلى ذلك جملة من المفاهيم المتَّصِلة بدور الثقافة الأكاديميَّة، ودور الأكاديميين وخاصَّة أساتذة الجامعات ودورهم في تعزيز فعل الثقافة بكلا حدَّيْها أو وجهيها على نحوٍ يكفل حقوق المجتمع المدني وأفراده ويُحافظُ عليها أو يضيِّعها؛ وذلك عندما يمارس أولئك الأكاديميُّون سلوك التَّوحُد ثقافياً مع ذواتهم ومصالحهم الوظيفيَّة الشخصانيَّة بما يحفظ وشائجهم مع مكوِّنات المجتمع السِّياسي على حساب وشجائجهم مع المجتمع المدني، الذي من المفترض أن يكونوا أحد دعاماته الأساسيَّة ومكوِّناته الأصلانيَّة؛ فيعمدون إلى تنميط الوعي، والتركيز على مُختصرات ومختزلات واجتزاءات المعرفة والثقافة والحقائق الموضوعيَّة، ويتحوَّلون بدورهم أيضاً إلى موظَّفين لدى السلطة يبررون أفعالها ومنظومات علائقها على حساب المجتمع المدني.