لا يليق أنْ تُحاسبَ الريشة التي سقطتْ دون إرادتها من جناحك أيها الطائر السيمرغ..أليس كذلك يا مولاهم فريد الدين العطار النيسابوري؟؟ ماذا عن سقوط الإنسان إلى حياةٍ مرهقةٍ دون مشيئته؟ السؤال إليك أيتها الريشة الوجودية العابرة. ثم؛ هل يشعر الطائر الذي يتجدد ريشه في كلّ مرة بهذا الفقد الفادح؟ هل تشعر الريشة بذلك الإنفصال الأبديّ؟ أتحدّثُ عنك يا صديقي الإنسان...
عبر سفرها الزمنيّ الذي قد يطولُ أو يقصر تظلَّ الريشة هائمة في المتاه الموحش تفتِّشُ عن الجناح الذي سقطتْ منه، الجناح الذي جعلها تسقط أيضا. تحملها الريحُ إلى السماء البعيدة فترى كلَّ طائر تحسبه هو، وفي كل مرة تمتلئ بحيرة إبراهيمَ وهي توقن أنَّ هذا ليس طائرها المنشود. تصبح الريشة مع الوقت عارفةً بشؤون الفراق وأوجاعه كلّما تعمّقتْ أكثر في اشتياق اللقاء، صارتْ تعرف أيضا أنّ ما تفقده دوما يحدد ما أنت عليه، ما تشتاقه ينظِّر مع الوقت، وأنت تتدرج في فنائك لتكتمل بالنقصان، لماهيتك الأخيرة.
هذه الوضعية مربكة حقا، مقلقة إلى حدٍّ قاتل، ولهذا كثيرا كثيرا ما اكتأبت الريشة وفكرتْ في الانتحار بل أقدمتْ عليه، كانتْ تتأرجح يمينا ويسارا محاولةً أنْ تستقر عدمًا في حضن نار حانقة. لكنّ أدنى هبّة نسيم تدفعها فترتاح على دفء وردة أو حضن امرأة أو تسافر بها صوب دروب مجهولة . غالبا، حين يقتلها اليأس، تنعتُ نفسها بالغبية، كلّما انتبهتْ إلى برد الحقيقة القاسي:كيف يمكن لمن لا يملكُ الحرية المطلقة أنْ يصلَ إلى الكعبة الصحيحة؟ أي عبث يعيشُ من إرادته خاتم في يد غيره؟ كيف يمكن لها أنْ تصل إلى السيمرغ هذا الطائر الزمنيّ اللازمنيّ وهو لا يتوقف عن التحليق ولا يقيم على عش سوى ليترك فيه ريشات أخرى يمنحها خمرة الشك فتسكرُ حيث لا أملَ في صحو قريب؟؟؟
يومَ حطّت الريشة على رأسي سمعتها تقول، أو ربما خُيِّلَ إلي فقط:"حدَّثتني واحدة من بني جنسي ذات تجربة وحكمة بشؤون الغياب الفاتن:أخبرني من أثق في تقواه وورعه أنّ ريشة فريد الدين العطار النيسابوريّ بقيتْ هائمة في العالم الرحب تفتّشُ عن جناحها فلم تجدْ إلى ذلك سبيلا ممكنَ السلوك، فاستقرّ رأيها على تخيّل ذاك كله فكان"منطق الطير"عودة رمزية رهيبة، ولهذا رجعتْ إلى موضعها من الطائر في الكتاب وضلتْ شريدة عنه نائية عن إدراكه خارج صفحاته فارتاح العطّار من وعثاء السفر وتعب المسير. وسمعتُ من أخرى أنَّ ريشة فريديريك نيتشه تعذبتْ كثيرا في البحث عن جناحها حتى كلّتْ وحلّ بروحها كبير الرّهق فتصوّفتْ ثم تزندقتْ ثم كان منها ما كان حتى ألهمته كتابةَ"هكذا تكلم زرادشت"فارتاحت قليلا أو توهمتْ ذلك فقط. وأضافت:ولكلّ ريشة حكاية لن يرويها أبدا لسان شهرزاد الكاذب ولا سكرة الرواة بخمرة العنعنة.
سمعتُ هذا وكذّبتُ حتى همستْ في أذني ريشتي:"لا تبحث كثيرا، أيها البشري الحائر، أنا الريشة وأنا الطائر السيمرغ فتوضأ بماء من ريق الحبيبة وماء من شهد السماء، وصلِّ بقوله:" وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ"في الركعة الأولى، واقرأ في الثانية:"ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله "، فإذا فرغتْ فاصرخ كما صرخ المسيح:"أنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ". فصلّيتُ حتى رأيتُ طائري في عنقي وقلبي ومواجدي، حلقتُ معه رغم أنف الجاذبية حتى رأيتُ الله يربّتُ على خلل بنيوي في نبضي الكالح، ثم فنيتُ دون موتٍ محقق..