ليس من السهل ترجمة تطلعات ورهانات النخب الثقافية والسياسية إلى مشاريع وأهداف ملموسة. فسقف هذه النخب عادة ما يكون عاليا ومتجاوزا لدرجة وعي وتطور المجتمع، وعادة ما يكون متعارضا مع مواقف ومصالح الطبقات التقليدية. ويزداد الأمر تعقيدا إذا كانت هذه النخب تتحرك وتشتغل في بيئة اجتماعية حديثة العهد بالانخراط في العمل السياسي، وتفتقر إلى تراكمات وقيم النقاش والتناظر حول قضايا تهم عموم المواطنين وترتبط بصناعة المستقبل.
من هذه الزاوية يمكن القول إن مجموعة من القضايا مازالت تقبع في منطقة مجهولة لم نكتشفها بعد، ولم نقترب من عتباتها، ولم نقطع ما يلزم من الخطوات الكفيلة بتحريرنا من إكراهات وضغوطات وأسئلة الواقع الذي غالبا ما نلجأ إليه لتبرير عجزنا وعدم قابليتنا واستعدادنا لتغييره وإعلان القطيعة مع ما يرمز إليه من سلبيات وممارسات تعيق التقدم. وبالمقابل ننتج قيم التخلف المنتصرة للشعبوية والمزايدات وتكريس ماهو سائد.
وجزء من هذه القضايا، التي لم تدرجها النخب في أجندتها، يتمثل في وجود مسافة بينها وبين أغلبية المجتمع الذي من المفترض أنها تتحدث باسمه وتتحرك نيابة عنه. غير أن هذه الأغلبية تبدو وكأنها مكون سلبي يتمسك بالعناد والمقاومة ويرفض الانتماء إلى فعل التغيير وقبول الأفكار والقيم الإيجابية. وفي أحيان كثيرة، ترى في النخب عدوا لها بالخطأ أو بالإقتناع، مادامت مؤمنة بأنها لا تشاركها ولا تقاسمها نفس اللغة ونفس المشاعر ونفس الأهداف ونفس التوقعات والمواقع . ومن هنا تطرح إشكالية التواصل مع أجزاء عريضة من المجتمع، وتطرح أيضا إشكالية الفعل والتأثير في هذه الأغلبية.
من الصعب أن نحمل النخب على اختلاف مواقع تواجدها مسؤولية انعزال وانغلاق أغلبية المجتمع. لكن مع ذلك ينبغي أن نضع النقط على الحروف، ونتساءل عن ميل الفاعل النخبوي إلى تداول خطاب منفصل عن الواقع وجنوحه بوعي أو بدون وعي، إلى ممارسة ما يمكن وصفه بالاستفزاز النخبوي، عبر التحدث من مكان متعال وفوق اجتماعي. الشيء الذي يؤدي إلى تغذية نزعة الرفض العفوي لشعارات ومطالب النخبة،حتى وإن كانت تخدم مصلحة أغلبية المجتمع، وتستجيب لحاجيات هذه الأغلبية.
من المؤكد أن عملية البناء والتغيير معقدة، وتتطلب نفسا وصبرا ودعامات. بيد أن ما يزيد في تعقدها، هو تجاهل الواقع والقفز فوق حقائقه المؤلمة. وعندما تسقط النخب في هذا الخطأ، فإنها تخلق قوى معارضة لها داخل المجتمع، وتكرس حالة من الانسحاب الجماعي السلبي من المشاركة في صناعة وتقرير الحاضر والمستقبل، على غرار ما حدث في عدد من الاستحقاقات الانتخاباتية.
هناك أشياء لافتة، وممارسات تعيق أكثر مما تساعد على التقدم. فمثلا لايمكن أن نراهن على حشد التأييد وتحقيق انخراط واسع للمواطنين في ورش استراتجية تتعلق بتأهيل شامل للمجتمع، إذا لم نستعمل لغة يفهمها الناس، وإذا لم نتواصل معهم بما يقنعهم بأهمية الرهان وضرورته.
والأهم في كل هذا، هو أن التواصل مع المواطنين باللغة التي يفهمونها والخطاب الذي يتفاعلون معه والشعارات التي يشعرون بأنها قريبة منهم، هو ما يضمن ثقة هؤلاء المواطنين، ويدفعهم إلى الإيمان بمبادرات النخب والوقوف إلى جانبها، عوض النفور منها واختيار وجهات أخرى، قد تتعارض مطلقا مع مشاريع النخب. خاصة إذا علمنا أن أي تغيير آو مشروع إصلاحيي، لن يكتب له النجاح، ما لم يعتمد ويتكئ على رأي عام مهيكل وواع بمصالحه وحقوقه، ومواطنين فاعلين وإيجابيين. فهؤلاء هم من سيصوتون لصالح أو ضد المشاريع الديمقراطية والحداثية.
وفي السياق نفسه تطرح جدلية المثقف والتغيير، حيث أصبح الحديث جاريا ومتداولا على نطاق واسع عن استقالة المثقف وانسحابه من المجال العمومي، وإعلانه قطيعة مع الأحداث والوقائع، من خلال انخراطه في عزلة اختيارية.
في واقع الأمر،عدد لايستهان به من المثقفين أصيب بخيبة أمل كبيرة وبإحباط شديد، لاعتبارات كثيرة ومتداخلة،أبرزها التحولات الجذرية التي مست وظيفة وصورة المثقف في المجتمعات العربية والإسلامية ومن ضمنها المجتمع المغربي، بحيث لم يعد يتمتع بنفس القيمة الاعتبارية والرمزية التي كانت له في العقود الماضية، ولم يعد مصدر إزعاج أو استفزاز بالنسبة للدولة، عندما كانت هذه الأخيرة تهاب المثقف وتحسب له ألف حساب، وكانت تعتبره خطرا عليها عندما كان يرمز إلى الثورة والتغيير والتجديد، وحتى تلك المكانة التي كان يحتلها في البنيات الحزبية لم تعد قائمة، فبدل أن ترتفع أسهم المثقف في بورصة السياسة، نجدها قد هوت إلى أدنى درجة، فيما يشبه عقوبة من السياسي تجاه المثقف، أما الدولة بمكوناتها ودوالبيها ووظائفها فقد خططت منذ سنوات لاحتواء المثقف وتدجينه وإغرائه، في مسعى حثيث لتحييد فعاليته، وطمس إشعاعه، فتحقق لها هدف قتل المثقف، دون أن تدرك أنها بفعلها ذاك ارتكبت خطأ جسيما، كونها استأصلت من المجتمع أدوات التفكير العقلاني والإنتاج الرمزي، وحولته تبعا لسلوكها المتوجس، إلى صحراء لاماء فيها ولاكلأ .
لكن مع ذلك، هناك من المثقفين من وقف في وجه العاصفة، واعتنق خيار المقاومة والممانعة، ورغم التشوهات التي طالت المجتمع، والتحولات التي شملت كل الأنماط والسلوكات والقيم، ورغم احتقار شرائح واسعة من المجتمع بما في ذلك بعض الفاعلين السياسيين للثقافة والمثقفين والعقل، ورغم التهميش الذي تمارسه وسائل الإعلام العمومية والخاصة وعداء بعض مسؤوليها لكل ماهو ثقافي، فإن هذا الصنف من المثقفين يحرص على المشاركة في النقاش العمومي، والالتزام بمصاحبة ومواكبة مايحدث داخل المجتمع.
من هنا نتساءل لماذا يكتب الكتاب ولمن يكتبون، ولماذا يفكر المفكرون ولمن يفكرون؟ إذا كان مجتمعهم هجين التركيب والتكوين ويكرههم ويرفضهم، هل بمقدور الفكر والكتابة أن يغير أشياء في الواقع؟ وهل يوجد استعداد لدى صانعي القرار للإنصات إلى ما يقترحه المفكرون والمثقفون وما يقوله المحللون،والاهتمام بما تنشره الصحافة من أخبار وتقارير وتحقيقات.
بدون مبالغة أو مزايدة، لم تتأسس بعد في مجتمعاتنا ودولنا ثقافة وسلوك تقدير وتثمين ما يكتبه وما يطرحه المفكرون والكتاب والمحللون من اقتراحات وحلول، وكأن مجهودات هؤلاء لا تعدو أن تكون هراء أو صيحات في واد. وهنا أستحضر ما قاله المفكر المغربي عبد الله العروي بخصوص نقاش جرى بينه وبين القيادي اليساري الراحل المهدي بن بركة الذي اغتيل في الستينيات حول الفعل السياسي، هل هو ممكن بدون أرضية إيديولوجية واضحة؟ فكان جواب المهدي بن بركة هو: نعم، أما العروي فأجاب بالنفي. ومن هذا المنطلق لا نتصور أن تكون هناك سياسة ناجحة وذات جدوى، ولا قرارات مؤثرة إذا لم تستند إلى أرضية وتصورات واضحة تؤطرها وتوجهها وترسم لها الآفاق الآمنة والواعدة.