كتبَ - بوب وود وورد - في الجزءِ الثَّاني من كتابه الذي يحمل عنوان القادة. وكان يقصد بالقادة كُلَّاً من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش ووزير خارجيَّته جيمس بيكر ووزير حربه ديك تشيني ورئيس أركان الجيوش الأمريكيَّة كولن باول وقائد عاصفة الصحراء نورمان شوارسكوف.. كتب " وورد " التالي:
" وفي يومِ الإثنين ٧/٣٠ يونيو ١٩٩٠ جلسَ - بابْ وليَمْ لانج وهو ضابط المخابرات المسؤول عن الشرق الأوسط في وكالة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة - ليكتبَ تقريراً سرِّيَّاً إلكترونيَّاً إلى مدير المخابرات الحربيَّة الجنرال هاري . آي . سويستر ورؤساء الوحدات الأخرى بداخل الوكالة. إنَّ النِّظام الإلكتروني للأمن الدَّاخلي يُسمَّى رسائل ( إي - ميلْ ) وتَتَطَلَّبُ السُّرعة، وتُرسَلُ بواسطةِ شبكة الكمبيوتر.. وأخَذَ لانْجْ يكتُبُ على الكمبيوتر - زينيثْ ٣٨٦ - هناك بعض المدفعيَّة وتَحَرُّكاتٍ واقعيَّةٍ وتحرُّكاتٍ للطيران العراقي، وليس هناك سبب لصدَّام حسين ليغعل ذلك.. إنَّ هذا لا معنَىً له إلَّا إذا كان هدفه هو خضوع الكويت. إنَّه يملك القدرة على اجتياح كل الكويت وشرق السُّعوديَّة، وإذا هاجم فلن يقف أحد أمامه ".
قد تبدو هذه الفقرة التي تُشير إلى نظام رسائل ( إي - ميلْ ) عبر شبكة الكمبيوتر عاديَّة الآن ولكنَّها لم تكن كذلك عندما صدر كتاب القادة لـ " بوب وود وورد " مطلع التسعينات من القرن الماضي. فلقد عرفنا عن تلك الوسائل وسمعنا عنها واستخدمناها بعد ذلك بعقد من الزَّمان على الأقل.. وقد كانت مُستخدَمة للأغراض العسكريَّة قبل ذلك بعقودٍ من الزَّمن !!.
بُعَيْد حرب الخليح الأولى على العراق في ديسمبر عام ١٩٩١ كنتُ قرأتُ كتاب ( الـقــادة ) ( THE COMMANDERS ) لـ ( بوبْ وود وورد ) أكثر من مرَّة وعُدْتُ إليه بعد عقدٍ من الزّمن أستجلي ما كان فيه من غموضٍ بعد أن تواتر إلى مسامِعنا جملةً مِمَّا ورد في صفحاته الثَّلاثمئة وخمسة من مصطلحاتٍ تتصِلُ بأنظمة الاتصالات. ذلك الكتاب الـَّذي كان قد صدَرَ للتَّو مُترجماً إلى العربيَّة عام ١٩٩١ عن دار ( سفنكس للطباعة والنشر والتوزيع ) والذي تناول أسرار صناعة قرار الحرب على العراق وخلفيات ودوافع ذلك القرار بعيداً عمَّا كان يُشاع ظاهريَّاً وتظاهُرِيَّاً عن الأسباب والدوافع الحفيقيَّة لتلك الحرب - أمريكيَّاً تحديداً - عبر فضاء وسائل الإعلام والصـَحافة الغربية والعربية في ذلك الحين.
وكان الكتاب قد اكتسب أهميته - ربما - لسبَبَيْنِ أساسِيَّنِ اثنينِ على الأقل وهما: كون كاتبه وهو القادم أساساً من بيئة وزارة الحرب الأمريكيَّة والَّذي تربطه أواصر وعلاقات قويَّة مع وكالة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة ومع بعض رؤسائها المتعاقبين وتحديداً مع" ولْيَمْ كيس " رئيس الوكالة في عهد رونالد ريغان ، وهو الصَّحفي الشَّهير في صحيفة واشنطن بوست - ونائب رئيس تحريرها فيما بعد - والَّذي اكتسب شهرته ابتداءً من خلال تفجيره لفضيحة ( ووتر غيت ) ضد الرَّئيس ( ريتشارد نيكسون ) والَّتي تجسَّدتْ فيما بعد في فلمٍ سينمائيٍّ حمل عنوان ( كل رجال الرَّئيس ) وهو ذات عنوان الكتاب الذي كان " وورد " قد ألَّفه عن فضيحة ووتر غيت، وقد كان نتيجة ما قام به وورد أن تحوَّل ريتشارد نيكسون من رئيس أقوى دولة في العالم إلى خِرْقةٍ وفانيلَّةٍ قديمةٍ يمكن مسح البلاط بها - كما قد ورد في مقدِّمة كتاب القادة - وربما كان السَّبب الثَّاني، أنَّ هذا الكتاب كان قد استند إلى جملة من الوثائق من مصادرها الأصلية وإلى شهادات طواقم المساعدين المباشرين لصُنَّاع القرار وإلى شهادات الضُّباط رفيعي المستوى العاملين في قيادة أركان القوَّات الأمريكيَّة المُشْتَرَكة، وفي البنتاغون، وحتَّى إلى تسجيل مكالمات أجراها وورد مع بعض هؤلاء قبل وفي أثناء وفي ساعات صناعة قرار الحرب بشكل مباشر.
كانتْ الحرب الأمريكيَّة على العراق حرباً إلكترونيَّة كمبيوتريَّة صَرْفة، اسْتُخْدِمَتْ فيها أنظمة التوجيه والتشويش الإلكتروني الأمريكي التي كانت مُعدَّة ضد الاتحاد السُّوفييتي لأولِ مرَّة، بما في ذلك صواريخ توما هوك ذي العقول الإلكترونيَّة في رؤوسها المتفجِّرة، وكل تلك الأنظمة كان يجهلها العالم وبما في ذلك العراق بطبيعة الحال؛ إلى الدَّرجةِ الَّتي دفعت وزير الخارجيَّة العراقي الأسبق طارق عزيز إلى القول بُعَيْدَ انتهاء الحرب: " لقد كنَّا نتوقَّع حرباً لا هوادةَ فيها مع الولايات المتَّحِدة الأمريكيَّة، لكنَّنا لم نكن نتوقَّع أنْ تتقافز الكمبيوترات الأمريكيَّة والعقول الإلكترونيَّة في سماءِ بغداد ولا نملك نحن على الأرض سوى تلقِّي الضربات؛ دون أدنى إمكانيَّة لمنعها !!".
بالإجمال، إنَّ ما أوردناهُ في الفقرة الأولى من المقالِ من مثالٍ، يؤكِّدُ ومع عددٍ لا حصر له من الأمثلة أنَّ كل هذا التطوُّر في وسائل الاتصال - وحتَّى في العلوم الطِّبيَّة؛ حيث كانت تلك العلوم تتطور في معامل الحرب البيولوجيَّةِ في كلٍّ من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة وروسيا بوجه الإجمال لا الحصر - كان منشؤُه أغراضاً عسكريَّة أساساً، بِدْأً بـ " أجهزة وإشارات التلغراف " البدائيَّة الذي تمَّ ابتكارها لتأمين سريَّة الإتصال بين خنادق الجيش الإنجليزي في حروب أوروبا البيْنيَّة العديدة قبل الحرب العالميَّة الأولى وإبَّان نهاية القرن الثَّامن عشر، مروراً بموجات الرَّاديو والرَّادر وليس انتهاءً بِتقنيَّات الصواريخ المداريَّة وحرب الكواكب والنُّجوم. ووسائل الاتصال الإلكتروني المُتاح منها الكثير الآن أمام عامَّة الناس. وما خَفِيَ - وبالتأكيد - كان وسيكون أعظم !!.