المعرفةُ تمنَحُ القُوَّة، ومزيداً من القوَّةِ يَتَطَلـَبُ مزيداً من المعرِفة. وهكذا تفرِضُ هذه المعادلة جوهر العلاقة الجدليَّة السَّببيَّة التَّبادليَّة التكامليَّة بين المعرفة والقوَّة. والمعرفة باختصار، هي جمع المعلومات وتصنيفها وتنظيمها؛ وتصبُّ في خانة زيادة القوَّة إذا أُحْسِنَ استخدامها على نحوً ما من الكفاءَةِ والفاعِلِيَّة الإداريَّة، بما في ذلك من تنظيم وتنسيق وتوجيه وتوظيف للمعلومات في خدمة التَّخطيط وصياغة البرامج.
من الطَّبيعي أنْ يلجأ صاحب السُّلطة المركزيَّة - أي سلطة كانت - إلى الاستفادة مِمَّا يتوافر لديه من معرفة تجاه الواقع الاجتماعي والجيوسياسي الَّذي هو بصدد الاستمرار في السَّيطرَةِ عليه وإدارته، وأن يلجأ إلى السَّعي إلى مزيدٍ من المعرفة التَّفصيليَّة تجاهه؛ وهذا ما فعله الغرب تجاه الشَّرق تماماً - كونه اعتبر نفسه تاريخيَّاً وما يزال السُّلطة المركزيَّة على العوالم من حوله - مُستَخدِماً ما وفَّره الاستشراق الفرنسي والأنجلوسَكْسوني بشكلٍ أساسيٍّ وسيلةً للإمعان في تخيُّل الشرق كمنطقة جغرافيَّة هي مجال رحب للدراسات الإنسانيَّة - الأنثروبولوجيَّة - وللدٍّراسات الوجوديَّة - الأنطولوجيَّة - وحتَّى مجالاً للدِّراسات النَّفسيَّة - السيكولوجيَّة - والدِّراسات العرقيَّة ودراسات التَّمايزات الجينيَّية والوراثيَّة - الأنتريجينيَّة - بشكلٍ ومنهجٍ فوقيٍّ استعلائيٍّ، وفي ذات الوقت الإمعان في دراسة الشرق واتِّخاذ الموقف منه كجغرافيا مُجرَّدة مُفرَغة من خصائص وحقائق وحقوق ما فيها من الدِّيمغرافيا - البشر والإنسان - تاريخيَّاً وتراثيَّاً وثقافيَّاً وأخلاقيَّاً، وقد تمَّ تجلِيَة هذه الرُّؤية الاستشراقيَّة المُتَأصِّلةِ لدى الغرب وبالتَّعاون مع الحركة الصُّهيونيَّة منهجيَّاً وتطبيقها عمليَّاً في فلسطين إبَّان نهاية القرن التَّاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد مثَّل الشَّرقُ جغرافيَّاً والحالُ كذلك مجالاً واسعاً مفتوحاً مُتاحاً بلا عوائق تُذْكَر للتنافس والسيطرة الاحتدامِيَّتانِ الغربيَّتان منذ منتصف القرن السَّادس عشر على أقلِّ تقدير !!.
منذ ما يُقارب منتصف القرن السَّادس عشر الميلادي كانتْ قوى الإستعمار الأوروبي التَّقليدي بما فيها القوى القديمة كإسبانيا والبرتغال وفيما بعد فرنسا وإنجلترا بشكلٍ أساسيٍّ ومن ثمَّ إيطاليا على نحوٍ أقل نسبيَّاً قد بدأتْ بالسَّيطرة على حوالي ٣٥٪ من مساحة العوالم خارج القارَّة الأوروبيَّة، وما أن جاء منتصف القرن التَّاسع عشر حتَّى كانت تلك المساحة تُقارِبُ على ٨٥٪ من مساحة تلك العوالم، وكانتْ معظم تلك المساحة من نصيب القُوَّتان الأبرز آنذاك، فرنسا وإنجلترا.
بدأ الاهتمامُ الغربيُّ بالشَّرقِ على نحوٍ منهجيٍّ معرفيٍّ - أو لِنَقُلْ بدأ تاريخ الاستشراق كمجالٍ لاكتناه الشَّرق معرفيَّاً وكموضوعٍ للبحث والدِّراسة كما يذكر إدوارد سعيد ذلك في كتابه الاستشراق - وكأداةٍ ووسيلَةٍ لتمدُّد نفوذ القوى الأوروبيَّة القديمة والحديثة، منذ مُنتدى " فيينا " الكَنَسيُّ عام ١٣١٢م الَّذي أطلق مشروعاً منهجيَّاً لدراسة اللغات والثَّقافات الشَّرقيَّة عبر القوس والمدى الجغرافي الممتد من إفريقيا وحتَّى الشَّرق الأدنى في عمقِ آسيا وصولاً فيما بعد إلى الهند والصِّين.
وما أنْ جاءَ منتصف القرن التَّاسع عشر حتَّى كان الاستشراق - وتحديداً الفرنسي البريطاني، ومن ثمَّ الإيطالي والألماني، وفيما بعد الأنجلو سكسوني - قد اكتَنَزَ معرِفةً تكادُ تكون تفصيليَّة على نحْوٍ موسوعيٍّ واسعِ المدى فائق الأداء والتَّوظيف والاستخدام للشَّرقِ، ولقد كانتْ تلك المعرفة وما زالت قائمَةً على أساسٍ تَخَيُّلِيٍّ تَنْميطِيٍّ كَوْنَ الشَّرقُ يُمَثِّلُ الآخر المُخْتَلِفُ الغريبُ المُدْهِشُ المُتَخَلِّفُ العاجزُ الضَّعيفُ خارج زمان ما بعد النُّيوتِينيَّة - نسبةً إلى إسحق نيوتن- كما عبَّر عن ذلك هنري كيسنجر المُتَلَقِّي الرَّاهن الأبرز لتراث الاستشراق معرفيَّاً وانطباعيَّاً - نذكر كيسنجر هنا كمثالٍ ذِي أثرٍ مستمرٍ في صياغة الفكر الاستراتيجي الأمريكي والغربي عموماً - والمُتَّسِقِ بطبيعة الحال ومن خلال ما يطرح من رؤىً حديثاً وراهناً مع منطلقات وغايات الاستشراق الأصلانيَّة والمنهجيَّة والغائيَّة فيما يُقدِّمْهُ من رؤيةٍ لعلاقة الأنجلو سَكْسُون مع العوالم الجغرافيَّة خارج القارَّتين الأمريكيَّة الشَّماليَّة والأوروبيَّة ولمستقبل مروحة السيطرة الأمريكيَّة على مناطق الشَّرق الأدنى - وتعميق النفوذ الأمريكي داخل أوروبا وفي اليابان - بما في ذلك عمق آسيا ومحيط الصِّين وكذلك الشرق الأوسط، ويكاد يكون هنري كيسنجر مُتَّسِقَاَ كُلِّيَّاً مع رواد طلائع المستشرقين الأوائل الَّذين حملهم نابليون معه في حملته على مصر والشرق بدأً بعام ١٧٩٢م، ومع تِقَنِيي الإمبراطوريَّات الأوائل أمثال اللورد كرومر واللور بيلفور، ولكنَّه يُضيفُ هو وآخرين من تِقَنِيي الإمبراطوريَّة العَوْلَمِيَّةِ الامبرياليَّة الجديدة بُعْداً تنبُّؤيَّاً أو استِنبائِيَّاً جديداً يقومُ على أساسِ مزيدٍ من ضرورة المعرفة التَّفصيليَّة والاستثنائيَّة لمفاصل نقاط القوَّة الكامنة - لدى عملاق بشري وجغرافي وتِقَني كالصِّين على سبيل المثال - ونقاط الضَّعف الَّتي يمكن تعزيزها في مَدَياتِ جغرافيا وديموغرافيا وثقافات الشَّرق الأدنى والأوسط بما في ذلك - بل وفي القلب من ذلك - منطقتنا العربيَّة بدأً من سواحل شمال إفريقيا وعميقاً حتَّى آسيا الوسطى مروراً بسوريا والعراق تحديداً - اللَّواتي إضافةَ إلى إيران ولبنان يمكن أنْ يُشكِّلا تحدياً جديَّاً لضمان مستقبل وجود إسرائيل وتفوِّقها الاستراتيجي، إسرائيل تلك الَّتي أعْتُبِرَتْ غربيَّاً بالإعلان عن قيامها عام ١٩٤٨ تتويجاً وملْمَحَاً بارزاً لانتصار المشروع الثَّقافي والاستشراقي ومشروع الهيمنة الغربي عموماً، أو ما يمكن أن يُمثِّلاهُ ، سوريا والعراق، من قوسِ تهديدٍ وتحَدٍّ استراتيجي لها على المدى المتوسِّط والبعيد وما تُشَكِّله جغرافيَّتُهما من مزايا فيما يتَّصِلُ بضمان أمن وسلامة وتدفُّق مصادر الطَّاقة النِّفطيَّة والغازيَّة - ووصولاً إلى إيران وغلاف روسيا، وحتَّى عمقها الإثني والبُنْيَوي الأصل تاريخي.
يذكرُ هنري كيسنجر في أحد مقالاته أنَّه يجب على الولايات المتَّحدة ألَّا تنتظر حصول أزمة على المستوى الدَّولي حتَّى تعمد إلى التَّصرُّف؛ بل عليها أنْ تعمل باستمرار على صياغة النِّظام الدَّولي بما يمنع احتمال حصول مثل تلك الأزمات؛ وعليها على الدَّوام أنْ توائم بين سلوكها في السِّياسة الخارجيَّة وفق ضروراتها الدَّاخليَّة، وبشكلٍ تبادلي تفاعلي متكامل من حيث استغلال الفرص ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء، بما يضمن صيانة المصالح القومية الأمريكيَّة واسعة المدى وضمان مزايا التَّفوُّق في أيِّ نظامٍ دولي يتم صياغته وذلك على قاعدة ضرورة توفُّر المزيد من المعلومات والمعرفة بما يجري واسْتِنْباءِ ما سَيجْري.
يبقى الحالُ - وبحسب عنوان القصيدة المشهورة للشَّاعر الإنجليزي الإمبراطوري ريديوارد كبلنغ - الشَّرقُ شرقٌ والغربُ غَرْبْ.. ويبقى الشَّرق - وبِحَسَبِ فيكتور هوغو ومع بداية عصر النَّهضة والاستشراق - يعيشُ مرحلَة العصر الهِلِّيني، عصر الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة اليونانيَّة العالميَّة المُخْتَلَطَة - فيما الغربُ تجاوز ذلك إلى عصرِ عبور عمق النَّهضة نحو الحداثة.. ويبقى وسيبقى الشَّرقُ - وفق كيسنجر وآخرين كفوكوياما وهنتنغتون - يعيش ما قبل عصر النيوتونيَّة والدِّيمقراطيَّة وعلى شُطْآنِ المعرفة ما قبل الحداثيَّة قبل أنْ حَط طائرُ نهاية التَّاريخ رحالَهُ مُسْتَقِرَّاً على ظَهْرِ سفينَةِ اللِّيبراليَّات الغربيَّة الماخِرَةِ عباب البحار - الـْمَابـَعْد حداثيَّة !!.
لكنَّ كلَّ ذلك يبقى أيضاً ومن مَقْلَبٍ آخرٍ وفي المحصِّلة مُجرَّدَ استيهاماتٍ تُشبِهُ استيهاماتِ المستشرقين الأوائل، وتقَنيي الإمبراطوريَّات الأوائل كنابليون الذي حَلُمَ بالاستحواذ على مصر ومنها عموم الشرق، وكذلك كرومر من بعده، وذلك في ظلِّ ما نراهُ من انبثاقٍ من جديدٍ لقوىً شرقيَّةٍ كروسيا العملاق العسكري الآن والَّتي كانتْ إلى حدٍّ ما موضوعاً وإنْ كان جُزْئِياً من مواضيع الاستشراق ومدياتِه، وكذلك الصِّين كعملاقٍ تقنِّيٍ بشريٍّ واقتصاديٍّ وغيرها من بلدان جنوب شرق آسيا وكذلك إيران كقوَّة تنسج التَّحالفات الاستراتيجيَّة مع روسيا والصِّين وسياسات الهند التي تنزع نحو الاستقلال عن محور رحى السياسات الغربيَّة وكلُّ أؤلئك ينتظمون تقريباً الآن ضمن تكتُّلات اقتصاديَّة وسياسيَّة كبرى منافسة، وكل البلدان اللَّواتي كُنَّ ميداناً للسيطرة الغربيَّة والإلحاق نراها الآن تتخذ منحىً أكثر جُرْأةً للإلتحاق بإرهاصات التَّحوُّلات الدَّوليَّة وأحد تلك الإرهاصات مؤدَّيات حربي سوريا واليمن، وما نراهُ من تعثُّرٍ لبرامجِ دعم المجمَّع العسكري الأمريكي في بيئة المحاربة المزعومة للإرهاب في سوريا والعراق واليمن، وتَلَعْثُمِ وارتباك الأحلام الإمبراطوريَّة لكلٍّ من بريطانيا وفرنسا عبر سوريا، وعدم قدرة إسرائيل على استثمارِ ما يجري في المنطقة استراتيجيَّاً لصالح إدامةِ تفوُّقها الاستراتيجي، وذلك أيضاً وبشكل متَّصل بمُجريات ومؤدَّيات الحرب في سوريا وما يُحقِّقه الجيش السوري وحلفاؤه في الميدان والوجود العسكري الرُّوسي الكثيف في المنطقة، وهو ما كَشَفَ عنه تقريرٌ إسرائيليٌّ مؤخَّراً وبثَّته قبل أيَّامٍ قليلة القناة التلفزيزنيَّة الإسرائيليَّة العاشرة، وهو ما أكدت عليه فحوى تصريحات وزير الدِّفاع الإسرائيلي ورئيس أركانه قبل أيَّام قليلة.
وكلّ ذلك أيضاً ربما يَشِي بتغييراتٍ جوهريَّة قد لا تبدو دراماتيكيَّة حتَّى الآن، ولكنْ يمكِنُ ملاحظتها من كلِّ ما تقدَّم وهي تَمَسُّ بفاعِلِيَّةِ معادلة (مفاعيل المعرفة والقوَّة - والقوَّة والمعرفة) الَّتي كانتْ تفعلُ فعلها تاريخيَّاً لصالح الغربِ على حسابِ الشَّرقِ بشكلٍ كاد يكون مُطلَقاً، والتي ركنتْ إليها إسرائيل مَلِيِّاً وطويلاً.