في ثقافتنا، نتقبل المبالغة في الفرح والحزن ونستقبلها بعفوية في الأجواء السياسية والمناسبات الفصائلية. وللمبالغة نتيجتان متناقضتان. في الفرح، تنتج المبالغة في البداية حالة عامة من الفرح العارم الذي يقرب إلى الهيستيريا، وبعد انتهاء الحدث، تكون نتيجة المبالغة والمغالاة هي الإحباط والهبوط الساحق والسريع إلى الواقع الذي حلقت بعيداً عنه أجواء المبالغة في الفرح والنشوة. هذان القطبان المتناقضان من المشاعر لا يمكن أن يخلقا جواً صحياً يسمح بالتقييم الموضوعي لحدث ما، أو التقدير المستحق له، وهو عادة ما يكون نتاجاً لأداءٍ إعلامي بدائي ومحكوم بعقلية خشبية إذا ما ارتبط الموضوع بحدث عام.
لم يبتعد مؤتمر فتح عن هذه الخصلة الاجتماعية، فرأينا تغطية تلفزيونية رسمية خلت من العنصر الإعلامي وطغت عليها المغالاة في التعظيم والمبالغة في الوصف والتكرار في الوجوه والمصطلحات والأسئلة للضيوف. في المحصلة، هذه التغطية انتزعت التقدير الواجب والمستحق لمجريات المؤتمر السابع لحركة فتح الذي اختتم أعماله يوم الأحد وأهدرت الجهود والطاقات لطواقم تلفزيون فلسطين من الزملاء والزميلات الذين أمضوا ساعات وأيام يعملون بكد وبلا ملل دون أن ينتج عنهم ما يمكن مقاربته بالعمل الصحافي المطلوب، وفي هذا ظلم لهم، وللمشاهد الفلسطيني الذي تابع باهتمام هذا الحدث الكبير.
في عالمنا اليوم، لا يمكن لأي جهة أن تحدد إطار النقاش في أي موضوع نظراً لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي ووجود غزارة معلوماتية تصل حد التشويش. وبالنظر لهذا الواقع الذي لا تحجبه وتتحكم به إلا أنظمة معدودة في العالم وفلسطين ليست منهم، تكون النتيجة هي فقدان الجهات الإعلامية قدرتها على التأثير إذا ما انتهجت التلقين بدل الخدمة الإخبارية، وإذا ما تجاهلت القضايا التي تهم مستهلكي الأخبار وفضلت المبالغة في التهليل والترويج الذي يكاد لا يلامس سوى سطح القشور لحدث مهم أو خبر أهم. الفضاء الافتراضي يعج بالأخبار والتأويلات والإشاعات والتحليل الذي يلجأ له المتابع إذا ما افتقده في العنوان الذي يفترض أن يكون مصدراً رئيسياً للمعلومة، وهذا ما حدث فيما يخص تغطية مجريات مؤتمر حركة فتح في تلفزيون فلسطين الذي وبكل أسف لم يقتنص الفرصة الذهبية المتاحة له في تصدر الساحة الإعلامية.
مؤتمر فتح كان له دلالات سياسية ووطنية كبيرة كانت تقتضي تغطية إعلامية تتطرق للعمق وتبتعد عن الشعارات، وتناقش القضايا بدل أن تردد الهتافات، وتطرح التساؤلات بدل أن تغض النظر عنها، وتنتحل بذلك دور الموجه الإعلامي في الأنظمة التي تلقن شعوبها مادة التفكير والتحليل وحتى المشاعر. للأسف، لم نرى في المشهد الإعلامي المحلي تغطية يمكن أن يعتد بها مهنياً وحُرِمنا كمتابعين من الاطلاع على مجريات المؤتمر بعمق؛ لأن التغطية الإعلامية بشكل عام اقتصرت على المقابلات الودية والترويجية في بعض الأحيان، وخلت من الأسئلة التي راودت الكادر الفتحاوي خاصة، والمواطن الفلسطيني بشكل عام. مثال على هذا كان استضافة تلفزيون فلسطين للزميل محمود أبو الهيجاء، الناطق الرسمي باسم مؤتمر فتح السابع؛ لتحليل خطاب السيد الرئيس محمود عباس في اليوم الثاني للمؤتمر! والسؤال هنا لماذا وكيف اتخذ هذا القرار، وكيف تخيل من اتخذه أن هذا الخيار يخدم رسالة تلفزيون فلسطين، أو خطاب الرئيس الذي كان لا بد أن يحظى بتحليل مهني ووافٍ لمحاوره المتعددة ورسائله الكثيرة؟! هل أدرك مُتخذ القرار أنه خسر المشاهدين الذين تابعوا شاشة فلسطين في بثها للخطاب؛ لأنهم تحولوا لوسائل ووسائط أخرى لتحليل الخطاب ولتوصيل رسائل والتحليل الذي كان من المفترض أن تقدمه شاشة فلسطين؟
الإعلام سلاح فتاكٌ يمكن أن يخدم رسالة معينة إذا ما كان الآداء مدروساً وواعياً، ويمكن أيضاً أن يضرب هذه الرسالة في الصميم ويخلق انطباعات عكسية وهدامة كان من الممكن تفاديها بقليل من الحكمة وكثير من المهنية. والاستخفاف بالإعلام وقدرته على التأثير استهتار خطير وذو أبعاد كبيرة، يكون ثمنه انحسار التأثير وخلق حالة انفصام عن الواقع تحدث خللاً كبيراً في عملية صنع القرار وتقدير أثره وقراءة أبعاده. لم يعد مقبولاً أن نتغاضى عن آداءٍ يمكن أن يدغدغ مشاعر مسؤول هنا أو هناك، ويلمع شخصيةً هنا أو هناك بينما هو في الحقيقة يهدم لبنات إعلام ٍ يليق بنا ويخدم رسالة فلسطين الرسمية والشعبية، التي بُنيت بتعب وجهد وتضحيات الزملاء والزميلات على مر عقود من الزمن. الصراحة في تشخيص هذا الحال هو مسؤولية وطنية والعمل على تصحيح المسار واجبٌ على كل حريص.