بادئ ذي بدء ، وقبل أن أبدأ كتابة ما أريد التعبير عنه من خلال هذا السطور ، أودّ أن أنوّه إلى أمرين : الأمر الأول أن اللصوص الذين تتحدث عنهم هذه المقالة ليسوا أولئك الذين يسرق الواحد منهم رغيف خبز أو خزانة مصرف فقط ، ولكن المقصود بهذا التعبير هو كل من أخذ شيئاً ليس من حقه بالنهب أو بالسلب أو بالغصب أو بالسطو في غفلة من صاحب الحق ، أو في غيبة القانون أو بالتحايل عليه ، وفي إطار هذا التحديد ، فإن كل من يتعدّى على أموال الناس العامة أو الخاصة ، أو على أعراضهم أو حرياتهم المشروعة أو مؤسساتهم وما فيها من الوظائف هو في عداد اللصوص . أما الأمر الثاني ، فهو أنني أتحدث في هذه السطور عن اللصوص أينما وجدوا ، وإنه إذا وجد في وطننا الصغير ، أو في وطننا الكبير مَن على رأسه ريشة فلا داعي لأن يمسح رأسه ، وللريشة هذه حكاية سأذكرها في نهاية هذه المقالة .
تمرُّ صناعة اللصوص في المجتمعات بمرحلتين : المرحلة الأولى هي توفير البيئة الحاضنة التي تساعد على تنامي اللصوصية وانتشار اللصوص ، وهذه المرحلة لها مظاهر منها تأليه الطواغيت ، وكثيراً ما تصنع الشعوب طواغيتها بيديها ، وأستذكر مقولة الرئيس البوسني ـ في حينه ـ بيجوفيتش عندما وصل ليصلي الجمعة متأخراً ، فأفسح له الناس الطريق إلى الصف الأول ، وعندما وصله استدار ليخاطبهم بغضب : ( هكذا تصنعون طواغيتكم ! ) ، فإذا كان إفساح المجال للصلاة يصنع الطواغيت فما بالُنا بإفساح المجال أمام من يتقدم الصفوف لقيادة الجيش مثلاً عن غير جدارة أو استحقاق ؟! وعندما يتم تأليه الطاغوت من الطبيعي أن يُغيّب القانون ، فكلامه هو القانون ، وإرادته هي الشريعة ، فإذا تم تغييب القانون انتشر الفساد ، لأن طريق الصلاح التي يحددها القانون قد اختفت معالمها ، وإذا انتشر الفساد سادت المحسوبية ، وسيادة المحسوبية تؤدي بالتأكيد إلى ضعف الإدارة لأن الأمر يُسند إلى غير أهله ، وهذا ما يؤدي إلى سوء التخطيط ، وسوء التخطيط يقود الدولة إلى الفشل ، وفشل الدولة يهبط بالجماهير إلى درك الإحباط وفقدان الأمل !
أما المرحلة الثانية ، فتبدأ منذ أن تفقد الجماهير الأمل ، فإذا فقدت الأمل تكون أمام خيارين : إما أن تنقض ( العهد ) الذي بينها وبين الدولة ـ الخدمة مقابل الولاء ـ كما نقضه الطاغوت من قبل ، وهذا ليس موضوع حديثنا في هذا السياق ، أو أن يتجه كل واحد من هذه الجماهير إلى ما يمكن أن نسميه ( الخلاص الفردي ) ، أي أن يبحث عن حل مشكلاته وتحقيق غاياته بنفسه ، وأنا هنا أصف ولا أبرر ، فيجد الكثير من أفراد المجتمع أنفسهم منقادين إلى التزلف لأصحاب القرار ، وبيع الذمة لأهل النفوذ ، كما ينقادون إلى منح الولاء المطلق لأصحاب الولاية ، ومنح الولاء على هذا النحو يؤدي بالطبع إلى تثبيت الطاغوت ، وبهذا تكتمل الدائرة ، ويبقى المجتمع يسير في حلقة مفرغة ، فيصل مجتمع كهذا إلى النتيجة المتوقعة ، أو الصناعة الرائجة ، ألا وهي صناعة اللصوص بجميع طبقاتهم وبمختلف تخصصاتهم .
ونعود إلى حكاية الريشة التي أشرت إليها في بداية المقالة . يُحكى أن رجلاً كان يربّي الإوز جاء إلى النبي سليمان يشكو إليه جاراً يسرق من إوزه ولا يعرف السارق ، فأمر النبي سليمان أن ينادى : الصلاة جامعة . فحضر الناس للصلاة دون أن يتخلف أحد ، فوقف النبي سليمان على المنبر وقال : إن أحدكم يسرق إوز جاره ثم يدخل المكان والريش على رأسه ، فمسح السارق رأسه ، فقال النبي سليمان : خذوه فهو صاحبكم !