الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

من رواية "علميني يا مريم"/ بقلم: بهاء رحال

2016-12-07 11:04:56 AM
من رواية
بهاء رحال

 

بعد أن أوشكت على بلوغ نهاية الرواية، طلبت مني قبل وقت قصير السيدة مريم، أن ألغي فكرة الرواية وأدير ظهري لها كأنها لم تكن، وإلا ستعلن في المدى ان فصولها بائسة وأن بها من الركاكة ما يشبه التبلد في جوف معنى واحد، والحب هو ان تخرج من ضيق المساحة الى فضاء يكتمل في فصول الشهوة والادمان على اللقاء وتعاقب شرب النبيذ والسجائر في حانات تعتقت فيها رائحة الشراب وشهوة النساء العابرات العابثات المدهشات، اللاتي يضفن للحياة معنى وللوقت شيئاً آخر بطعم حليب النهد.

 

حاولت ان أطيع مريم فيما تريد، وقد دفعتني لأعيد النظر في مشاهد أيقنت أنها مكتملة، لولا صورة العاشق الناقصة في الظل يتحرك تحت وطأة مدى مفتوح أمامه، هو ذلك المدى الذي يمتلئ بالحيرة والتجني على واقع لم يكن بهذه القسوة، بل ان بعض الرواة يكذبون حين يلبسون ثوب الشجاعة ولا يعترفون بماضٍ جبنت فيه خطواتهم، وقلوبهم ارتعشت بما فاض منها في لسعة خوف مفاجئ.

 

كانت مريم قد اتمت قراءة فصول الرواية، بعد ان سرقتها قليلاً من أمام رؤوف الغارق في نوم مفاجئ، حيث كان يتمم مقاطعها الاخيرة في التدقيق، فأكتشفت أن الرواية التي كتبها مراد هي عن مريم، وأن القصة التي يسردها الكاتب بتفاصيل غاية في الدقة، هي قصتهما، لهذا ازعجها الأمر وخرجت على مراد تطلب منه ان يتوقف عن الكتابة، او يبحر اكثر جرأة في وصف الحب الذي بينهما كما هو، وان لا ينتقص منه اجزاء ارادها لترتيب جمال الرواية.

 

كان رؤوف يعيد قراءة الرواية سطراً فسطراً، فهو يمارس هوايته في تدقيق الكلام، الكلام الذي أكتبه على قصاصات هنا وهناك، بعضها من بقايا دفاتر قديمة قصصت منها ما بقي من أوراق صالحة للكتابة، وبعضها من أوراق بالية، مثل ورق ساندويشات الفلافل التي نجلبها لوجبة عشاء فاخرة مع كأس شاي، عندما نريد أن نجعل العشاء مختلفاً، بعد ان نكون قد أُتخمنا بالزيت والزعتر وحبة الزيتون.

 

رؤوف كان يعمل مدققاً في الجريدة، يصحو بعد الظهر تقريباً، من نوم يرتاح إليه متأخراً بعد ليلة عمل شاق، فالعمل في الجريدة يحتاج الى جهد كبير، وتركيز دائم لساعات تطول مقابل أجر زهيد، يكاد لا يؤمن له ثمن المواصلات اليومي، وهذا ما جعله يختار النوم أحياناً في الجريدة، ليس لأنه لا يحن لاحتضان ابنائه وزوجته كل يوم، ولكن لان تكاليف السفر تستنزف راتبه ولا يتبقى منه شيء لتأمين الاحتياجات الأخرى، لهذا كان ينام ثلاثة ايام في الجريدة ومن ثم يعود الى منزله الليالي الاخريات من باقي الاسبوع الذي يقضي أيامه دون اجازة.

 

مريم إلى جواري تتأمل شكل رؤوف، وهو يمسك قلماً رخيص الثمن في يده، ويتابع الكلمات المكتوبة أمامه على ورق أصفر، كانت مريم تتأمل صورة رؤوف المتماسكة أمامها وهو لا يعيرنا اي اهتمام، فتقول هو يطارد كلاماً شهياً بقلم رخيص الثمن على ورق فقير، يا له من حبر يفكك أحجيات القلب دون استئذان ولا يضع ثمناً حين يكتب الحقيقة، تلك الحقيقة التي تتجلى في ساعة هبوط الوحي، وحي الخيال الرحب.

 

كان رؤوف يضع الى جواره شراباً رخيص الثمن، ويواصل حركاته بين فاصلة في الكلام تقترب، ونقطة تصل نهايات المعنى، لكنه يحرص أن لا يخدش الكلام نزفاً من فمه يبلل رتابة الورق من كأسه الذي يترنح في يده، كانت مريم تسألني وكيف يفهم المعنى وهو في حالة هذيان؟ إنه يمتص الكلام مثلما تمتص الاسفنجة رجفات السكارى في يد النادل، كنت احاول ان اجيبها على فعل رؤوف الذي يعجبني شكله، وهو يواصل تعويذة المساء دون قلق، فهو متمرس وشديد التواضع، ولا يكترث لكل ما حوله من أصوات قد تعكر صفو مزاجه الذي دفع عليه رزق يومه من عمله في الجريدة، فهو منتبه لما بين يديه من رواية يعرف أنه لن يتلقى عليها أجرة أو رشوة، ولا حتى علبة شراب غالية الثمن، ويواصل عمله باتقان رغبة منه في انجاز عمل الح عليه كاتبه كثيراً، ذلك الكاتب الذي يخطئ أحياناً في النحو ويسهو في الإملاء.

 

مريم التي كانت قد وصلت قبل يومين من أمريكا، حيث التقاها مراد في عمان، العاصمة الأردنية التي قدم إليها من موسكو، بعد سنوات وصلت إلى ما يشبه القطيعة بينهما، لولا تلك المحادثة التي حدثت بعد ان اهتدى إلى عنوان

 

بريدها الالكتروني بواسطة سلوى شقيقته، وما هي الا ايام قليلة حتى اتفق الاثنان على اللقاء، لقاء يتجدد اللهفة ذاتها، والجنون المفرط حد الخيال في رؤيا عاشقين وجدا في حبهما سر الخلاص.

 

في الساعة الثانية عشرة ظهراً، وبعد ان انهت اجراءات التفتيش في المطار، التقاها مراد عند بوابة القادمين الخارجية، الى جواره تاكسي اصطحبه معه دفع ثمن اجرته البالغة 15 دينار مقدماً.

 

بقبلة خاطفة قبل ان يلحظها أحد وفي ذروة احتضان ايدهما ببعض، بعد ان اخذها الى صدره كأنه يعتصرها، ويدفء قلبها وسط نهار بادر من ايام شباط الممطر وشديد البرودة، وهذا الشهر من السنة هو شهر تتناقص فيه درجات الحرارة الى ما دون الصفر في عمان، حيث يجمع فصل الشتاء فيه ايامه الاخيرة قبل الرحيل، فيزيد الطقس برودة مع شمس تطلع على استحياء، لكن حرارة اللقاء اذابت صقيع الطقس وعبأته بدفء الشوق الملتهب في لقاء منتظر.

 

مريم تصعد الى جوار مراد في كرسي السيارة الخلفي، وهي تبتسم وتقول لا تقلق من هذا البرد لقد احضرت لك شراباً من السوق الحرة في المطار، شراباً يليق بلقائنا الذي طال انتظاره.

 

من مرآة الوسط ينظر السائق وهو يبتسم، فيقول والى اين وجهتكم يا ترى!!!

 

الى جبل الحسين لو سمحت

 

 كانَ عنوان شقة رؤوف في جبل الحسين قرب دوار فراس، حيث يقيم بها منذ شهرين، بعد أن استقر فيها مؤقتاً بعد عودته من سوريا، فقد طرد من عمله وفقد بيته المستأجر هناك وحمل ما استطاع من اغراضه وعاد الى عمان في ليلة كادت ان تعتقله السلطات السورية لولا صديقه بشار الذي ساعده في تجاوز الحدود، حيث كانت السلطات هناك تتهمه بانه من المعارضة، غير انه لم يكن كذلك، بل كان احد العاملين في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، بينما ركبت زوجته البحر مع والدها ووالدتها والابناء ووصلوا الى تركيا حيث استقر بهم الحال مبدئيا هناك، لكن رؤوف لم يجد طريقا سوى ان يذهب الى الاردن، بعد ان قطعت الحرب ظروف التواصل مع عائلته التي كانت في زيارة لاهلها خارج المخيم لحظة وقوع المخيم في قبضه المجموعات المسلحة.

 

طوال الطريق من المطار الى دوار فراس ومريم تمسك يده وتفركها كأنها مصباح علاء الدين، يهمس في اذنها مراد، يفز ملاك آخر يا مريم اذا استمريت في فعلتك، بينما لا تكترث لهمس يزيدها شبقاً في رغبة اللقاء، بينما سائق التأكسي يتأفف من الأزمات المرورية التي كان يقول انها بسبب كثرة الوافدين والهاربين من الحرب في بلدانهم.

 

السائق العصبي الذي كان يقود المركبة، لا يبالي في اظهار عصبيته المفرطة التي تلعن هذه الازدحامات المرورية التي تعيشها شوارع العاصمة، وكان يستخدم بعض الالفاظ البذيئه في شتم بعض السائقين الذين يتجاوزون مساراتهم بطرق خاطئة ويزاحمون المركبات في شارع لا يتسع لكل هذه المركبات التي تحتل الشارع،

 

نظر لنا لنا وهو يقول هذا احتلال مثل الاحتلال الذي في بلادكم، مركبات من كل اقطار الدنيا

 

تعجبت قليلاً، وقلت كيف عرف اننا فلسطينيين؟!!

 

ربما انتبه للهجة التي نتحدث بها انا ومريم

 

ها قد وصلنا يقول مراد، تفضلي بالنزول يا مريم

 

الطقس بارد، ومعطفها الاسود بللته زخات من المطر هطلت عليهما في لحظات، بعد ان تركوا سيارة التاكسي وترجلوا مشياً على الاقدام في خطى تحاول ما استطاعت الاسراع للاختباء تحت مظلات المحال التجارية التي يكتظ بها الطريق، طولا وعرضاً وفي كل اتجاه، لكن من حسن حظهم ان المطر توقف فجأة فواصلا السير الى حيث الشقة التي يسكن فيها رؤوف.

 

كم تغيرت عمان تقول مريم، هذه المحال كان نصفها مغلق يوم سافرت منها الى أمريكا

 

في ظرف بضع سنوات تغيرت عمان يا مريم، فعلاً

 

حروب المنطقة جعلتها حضناً دافئاً لاشقاء عرب أتوها من كل صوب.