الحدث- برلين
توفي في برلين الأحد 11 ديسمبر/ كانون الأول المفكر السوري صادق جلال العظم، الذي يعتبر من أبرز المفكرين العرب في العصر الحديث، واشتهر بأفكاره الجدلية حول العلمانية ونقد الأفكار الدينية، مخلفاً إرثاً ثقافياً كبيراً.
"نعلمكم ببالغ الحزن والأسى وفاة والدنا صادق جلال العظم في منفاه برلين، ألمانيا"، هكذا أعلن ولدا المفكر السوري صادق جلال العظم، عمرو وإيفان، للعالم وفاة أحد أهم مفكري القرن العشرين في العالم العربي، نعيٌ تناقله الساسة والمثقفون والنشطاء، حيث عزّا العديد من السوريين أنفسهم بوفاة أحد ابرز أعلامهم بعيداً عن أرض الوطن.
أشهر منظري العلمانية في التاريخ الحديث توفي عن عمر يناهز الـ82 عاماً، بعد أشهر من تدهور صحته، حيث فشلت عملية استئصال الورم الخبيث في المخ، وما بعد موته اعتبر الكثيرون أن إكرامه هو في إعادة نشر فكره، حيث انتشر هاشتاغ "#تكريم_المفكر_أن_نقرأه" مع نشر عدداً من أقواله أو أفكاره نشرته الإعلاميتين ريتا خوري وديما صادق، كذلك نعته الإعلامية اللبنانية بولا يعقوبيان.
العظم المفكر السوري الدمشقي توفي بعيداً عن مدينته التي ولد فيها سنة 1934، ليتابع حياته فيها وينتقل لبيروت للدراسة حيث تخرّج بدرجة امتياز في قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية عام 1957، ليحصل بعدها على الدكتوراه من جامعة ييل في الولايات المتحدة الأميركية متخصصا في الفلسفة المعاصرة، حيث قدّم أطروحته حول الفيلسوف الفرنسي "هنري برغسون".
تولى صادق جلال العظم عدّة مسؤوليات أكاديمية، من أهمها أستاذ للفلسفة والفكر العربي الحديث والمعاصر في جامعة نيويورك والجامعة الأميركية في بيروت، وفصل منها بعد الضجة الكبيرة التي أثارها صدور كتابه نقد الفكر الديني، والتي أدت إلى سجنه فترة بسيطة بعد محاكمته بسببه ومن ثم تبرئته، حيث وقف في وجهه الشيخ محمد جواد مغنية والإمام موسى الصدر والمفتي نديم الجسر، لينتقل إلى الأردن للتدريس فيها، ثم يمنع من دخول الأردن، قبل أن يعود إلى دمشق ليعمل أستاذاً في جامعتها.
درس الفلسفة في الجامعة الأميركية، وتابع تعليمه في جامعة ييل بالولايات المتحدة. وعمل أستاذاً جامعياً في الولايات المتحدة قبل أن يعود إلى سوريا ليعمل أستاذا في جامعة دمشق في 1977- 1999، وشغل صادق جلال العظم مهمة أستاذ فخري بجامعة دمشق في الفلسفة الأوروبية الحديثة، كذلك كان أستاذاً زائراً في قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون حتى عام 2007.
للعظم مؤلفات عديدة، من أهمها "نقد الفكر الديني" التي تعرض فيه العظم لنقد الدين كأسلوب حياة وطريقة تفكير حيث كتب في تعريفه "هو مجموعة أبحاث تتصدى بالنقد العلمي والمناقشة العلمانية والمراجعة العصرية لبعض نواحي الفكر الديني السائد حاليا بصوره المختلفة والمتعددة في الوطن العربي"، كذلك كتب "الحب والحب العذري، فلسفة الأخلاق عند هنري برغسون، ودراسات في الفلسفة الغربية الحديثة، والنقد الذاتي بعد الهزيمة، دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية، الصهيونية والصراع الطبقي، زيارة السادات وبؤس السلام العادل، الاستشراق والاستشراق معكوساً".
العظم الذي قرّر منذ البداية "ألا يتحول إلى مثقف عربي في المنفى" كما كان يقول، حاول أن يكون قريباً من القضايا التي تشغله، مع الحفاظ على حريته في معالجتها ونقدها، فقضى حياته متنقلاً من جبهة فكرية إلى أخرى، لذلك كان يلقب أحياناً بـ"المشكلجي" أي من يثير المشاكل باللهجة الدمشقية، لكنه كان مدافعا شرسا عن حرية الفكر، وكان ذلك جلياً في دفاعه عن الكاتب سلمان رشدي بعد صدور روايته "آيات شيطانية" فأصدر كتاب "ذهنية التحريم" ثم "ما بعد ذهنية التحريم" مدافعاً عن حرية الكتابة، ومنتقداً الاستقبال العربي والإسلامي للرواية.
نعاه الروائي خيري الذهبي على تويتر بنشر أفكاره مغرداً:
لم يعتبر العظم من أبرز رموز ربيع دمشق الذي بدأ في سوريا بعد العام 2000 فقط، بل تمت بجهوده الدعوة لعقد أول مؤتمر للعلمانية في دمشق عام 2010، والذي منع إبانها من قبل الأمن السوري وكان بمثابة دعوة جريئة للبحث في الواقع والحماية من التطرف.
بقي صادق جلال العظم، مثيراً للجدل بأفكاره حتى بعد الربيع العربي، خاصة خلال الثورة السورية، إذ اعتبر أنها الوسيلة للتخلص من الدكتاتور، كما كان من أوائل من أطلق مصطلح "العلوية السياسية" التي لم تعجب البعض، ولم تفهم من قبل آخرين، وفي هذا السياق كتب فايز سارة عن العظم على صفحات المدن "صادق جلال العظم الف تحية وتحية!"
حصل العظم خلال حياته على العديد من الجوائز عن أعماله الفكرية حول العالم، ففي عام 2004 حاز على "جائزة ليوبولد لوكاش للتفوق العلمي" التي تمنحها جامعة توبنغن الألمانية، ومنحه "معهد غوته" وسام الشرف الألماني عام 2015، وفي نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 أعلنت عائلته تأسيس "مؤسسة صادق جلال العظم" قائلة إن الهدف منها هو المحافظة على "إرث صادق جلال العظم الفكري والثقافي واستمراريته"، كما أعلنت "مؤسسة اتجاهات - ثقافة مستقلة" مطلع ديسمبر/كانون الأول 2016 فتحها باب التقدم إلى "جائزة بحثية استثنائية تحمل اسم العظم، وتتوجه إلى الباحثين المتميزين في مجالات الثقافة والفنون من السوريين والفلسطينيين السوريين".
بينما كتب الصحفي السعودي محمد السيف رئيس تحرير المجلة العربية والمشرف العام على مركز الملك فهد الثقافي عن ذكرياته مع المفكر العظم.
رحل صادق جلال العظم، تاركاً فكراً كاملاً، فيما يراه البعض مدرسة بحد ذاتها، ومخلفاً عدداً كبيراً من الأصدقاء والصديقات والقراء، الذين بكوا رحيل آخر المفكرين السوريين، البعض نعاه باكياً بذكرى أو كلمة أو حادثة، لكن الكل أجمع أن شجاعته لم يكن لها مثيل، وأنه برحيله فإن "كلمة الحق تترجل"!.
حيث كتب صديق العظم الصحفي والباحث وائل سواح على صفحته على فيس بوك "حين كان كل معلم مدرسة أو كاتب مبتدئ في جريدة يطالبك بأن تناديه "أستاذ" كان المفكر السوري الأبرز يقول لك ببساطة: 'نادني صادق من فضلك!'"، فيما نعى الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي العظم أيضاً عبر تويتر.