السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

دمشق في السنة الرابعة من النزاع الدموي.. هنا الجحيم

2014-05-12 00:00:00
دمشق في السنة الرابعة من النزاع الدموي.. هنا الجحيم
صورة ارشيفية

التنقل من منطقة إلى أخرى كابوس حقيقي

العاصمة مربعات أمنية متداخلة

 

الحدث - دمشق -  غسان ناصر

دخلت الحرب في سوريا عامها الرابع، في منتصف شهر آذار/ مارس الماضي، وقد عاش السوريون في الأعوام الثلاثة المنصرمة عذابات وويلات القتل والدمار والتجويع والتشريد، والمذابح التي بدأت بسكاكين الطائفية ثم برصاص قوات النظام، ليلي ذلك القصف بالهاون والمدافع ومن ثم بالبراميل المتفجرة والكيماوي على القرى والبلدات والمدن السورية الثائرة، وصولاً لأبشع صور القتل والإبادة بحصار التجويع. 

لا يمكن للمرء أن يدرك جوهر المأساة السورية، إلا بعد أن يعلم أن أعداد ضحايا الجحيم السوري تجاوزت الـ 150 ألف مدني (حسب منظمات حقوقية معارضة)، كما دفعت الحرب المستعرة في أرجاء سورية قرابة سبعة ملايين نسمة للنزوح، بعدما دمّر النظام قرابة المليوني بيت، وبعد أن مسحت الجرافات مناطق كاملة عن وجه الأرض، بعد نهب الكثير منها من قبل النظام السوري، الذين رفع أزلامه منذ الأيام الأولى للاحتجاجات شعار “الأسد أو نحرق البلد”، وهو الشعار الذي عمل النظام على ترسيخه واعتماده نهجاً وحيداً للبقاء.

وقد باتت الحياة في دمشق، منذ قرابة العامين، تُعاش وفق خريطة قذائف الهاون التي تتساقط على الكثير من أحيائها الشعبية والراقية دون تمييز بين موالٍ ومعارض، أو بين مدني وعسكري، وهو ما دفع بالدمشقيين إلى تسميتها بـ “القذائف العمياء”،

ناهيك عن تحويلات الطرق التي باتت السمة الأساس في قلب دمشق التي يندر أن يخلو شارع من شوارعها من حاجز أمني قد يغلق الطريق في أية لحظة، أو يجبر الناس على تغيير مسارهم، فالعبث وحده يحكم مزاج صنّاع الموت هنا.

أرواح معلقة بين الآمال والآلام

لا يغيب الشجن السوري عن أي حديث، سواء كان عن تفاصيل الحياة اليومية أو الوضع الميداني المشتعل أو الأوضاع الاقتصادية الكاوية، حيث الخوف والغلاء هما ألف باء الحياة السورية في مدينة لا تتوقف عن نزف الرعب والتفتت.
حين تسأل مواطناً سورياً عن حاله اليوم، وقد بات في أمسّ الحاجة إلى معجزة تحميه من طيش الموت، وهو يواصل العيش على إيقاعات الطائرات والمدافع وانفجار السيارات المفخخة والعبوات الناسفة، يقول بمرارة وسخرية: «نحن السوريون المحكوم علينا بالاستمرار في العيش، نهرب من هوان بشع لا يطاق إلى هوان أبشع لا يصبر عليه، ونخرج من حفرة صغيرة لنقع في حفرة كبيرة، ولا يعرف أحدنا هل ستكون الأيام القادمة حفرة صغيرة أم حفرة كبيرة؟»

يضيف الدمشقي عبد الوهاب معلا: «بعد ثلاث سنوات من هبّة الشعب السوري، ثمة مشاهد مليئة بالأحداث الأليمة والموجعة، بدءاً من هتاف الحرية الأول، ذلك الهتاف الشهير «وينك يا سوري وين»، الذي انطلق بالقرب من الجامع الأموي في دمشق، وتحديداً في منطقة «الحريقة» في 8 آذار/ مارس 2011، مروراً بمشهد الدماء النازفة من تحت أظافر أطفال درعا، وصولاً إلى الموت جوعاً في المناطق المحاصرة خاصة في مخيم اليرموك، مشاهد عاشها السوريون والفلسطينيون- السوريون في دولة الصمت، وأرواحهم معلقة بين الآمال والآلام..».

كلام «معلا» لا يمكن أن يفهمه إلا من عاش في دمشق قبل العام 2011، وشهد كيف تحوّل التنقل منذ ثلاثة أعوام من منطقة إلى أخرى إلى كابوس حقيقي، بعدما حُولت العاصمة إلى مربعات أمنية متداخلة، حيث زادت المدة الزمنية للرحلة بمعدل 4 أضعاف وسطياً عما كانت تحتاجه قبل اشتعال الأزمة، إذ يستنزف الناس قرابة نصف نهارهم ما بين 8 ساعات عمل و5 ساعات للذهاب والإياب إليه وسطياً، ذلك أن عدد المقاعد الدوارة يومياً، والتي كانت تقدر في العام 2011 بـ 250 ألف مقعد، شهدت انخفاضاً كبيراً بحيث لا تتجاوز الآن 90 ألف مقعد فقط، فضلاً عن انخفاض أعداد «السرافيس» (سيارات النقل الجماعي) في دمشق وريفها من 14 ألف «سرفيس» إلى 4679 «سرفيس» الآن، بالتزامن مع ازدياد سكان مدينة دمشق بمقدار 60% بسبب موجات النزوح إليها.

ولقد أصبحت الطوابير على محطات الوقود أمراً مألوفاً لتختبر أعصاب الدمشقيين المتوترة أصلاً والخائفين من الطريقة التي اجتاح بها النزاع بقية البلاد منذ 38 شهراً، ووصل أخيراً إلى أبوابهم.

يقول أحد الدمشقيين إن أبرز أسباب انقطاع إمدادات الوقود والسلع الأخرى في دمشق هو العنف المتزايد حول الطريق الرئيسية المؤدية إلى المدينة. 

كتائب الموت والمقامرة بالأرواح..

ليست أزمة المواصلات التي تتجاهلها الحكومة عمداً،  إلا واحدة من أزمات الجحيم الذي يعيشه أبناء المدينة المقطعة الأوصال، بفضل سلسلة الحواجز الأمنية، التي يقيمها الجيش والأمن والمليشيات الحكومية، والتي يتجاوز عددها اليوم 500 حاجز في دمشق وحدها، فضلاً عن منع المرور في العديد من الطرق الاستراتيجية لأسباب أمنية بامتياز، وليبقى الذل سيد الموقف، وهو ما جعل من المدينة في ساعات المساء الأولى تبدو وكأنها مدينة أشباح.

كما انتشر في الأيام الماضية، على بعض الحواجز الأمنية، عناصر متطوعة من طلاب الجامعة، حملوا اسم “كتائب البعث” (مدنيون منتسبون لحزب البعث العربي الاشتراكي – الحزب الحاكم)، ويزيد أعدادهم على سبعة آلاف مقاتل، وهم طلبة جامعيون. ويتميز مقاتل هذه الكتائب بوسمٍ يضعه أعلى ساعده، يحمل الشعار التقليدي للحزب (خريطة الوطن العربي). كذلك سمح للإناث بالانضمام إلى “كتائب البعث”، بعد إخضاعهن لدورة عسكرية تدريبية، وسمح لهنَّ بالوقوف على الحواجز، من دون المشاركة في المواجهات العسكرية المباشرة، وقد باتت هذه “الكتائب” رديف الجيش النظامي والأجهزة الأمنية.

يقول سليم الكردي: “أصبح خروج معظم قاطني دمشق من منازلهم عند المساء مرتبطاً بأمر بالغ الأهمية، فلا أحد هنا مستعد للمقامرة بحياته أو بأمواله على أحد حواجز النظام والخروج بعيد غياب الشمس”.

ومما زاد معاناة الناس في المدينة استباحة طرفي النزاع (النظام والمجموعات القتالية المعارضة) ساحات دمشق العريقة، كساحة العباسيين، وساحة يوسف العظمة (المحافظة)، وساحة السبع بحرات، وساحة عرنوس، وساحة باب مصلى، وساحة المرجة التي استهدفها انتحاريون في سيارات مفخخة مرتين متتاليتين، حيث مبنى وزارة الداخلية القديم، لتتحول الساحة من مزارٍ لأهل المحافظات البعيدة، إلى حاضنة لأكياس الرمال والحواجز الإسمنتية المرتفعة والخوف، إضافة إلى المهجرين من بيوتهم من ضواحي دمشق، الذين لم يجدوا غير الحدائق والساحات العامة مأوى لهم، دون الاكتراث للمخاطر التي قد تلحق بهم.

أما الشوارع الفرعية فتغصّ بالبسطات التي يشغل معظمها عناصر من الأمن، فيما يدير أطفال التسوّل دفة النهار، على أمل الحصول على الليرات والطعام من المارة.

وبين الحين والآخر تخضع مناطق، تعتبر آهلة بالسكان وسط دمشق، لتفتيش أمني دقيق ومداهمات، كما هي الحال في بلدات وأحياء ركن الدين وبرزة البلد والمزة القديمة والجديدة ونهر عيشة والميدان، التي تعتبر، أو كانت تعتبر، مركزاً لتجمع النازحين من الضواحي الثائرة في الريف، والغرض من كل ذلك التضييق على أهل دمشق وعقابهم على مطالبتهم بالحرية وتغيير النظام. 

غياب الدولة وقهر المواطن..

ترك القتال في وسط دمشق الكثير من المشروعات التجارية في حالة نقص في الأفراد، حيث اضطر العاملون للبقاء في منازلهم لأن طرق مواصلاتهم تمر عبر أو بالقرب من مناطق النزاع، بعد أن أجبر القصف الحكومي للمناطق التي تسيطر عليها كتائب المعارضة المسلحة، الآلاف للنزوح من منازلهم والمبيت عند أصدقائهم أو أقاربهم لتفادي رحلات العودة ليلاً، خوفاً من إرهاب الشبيحة (عناصر مدنيون متطوعون للقتال إلى جانب النظام) من الذين أوكلت إليهم مهمة ضبط أمور العاصمة أمنياً، فاستباحوها دون رقيب أو حسيب.

وكثيراً ما شددت المعارك المنتشرة في أنحاء دمشق قبضتها على الوضع الاقتصادي المتأزم بالفعل في عموم المدن السورية، مما أثر في طرق التموين الرئيسية، وأدى إلى تدهور سريع في حركة التجارة، بعد أن أربك العنف حركة المرور والإمدادات على الطريق الرئيسية التي تربط العاصمة بمدن حمص وحماة وحلب.

كما قلّت حركة البيع بشكل ملحوظ في أسواق العاصمة، وكثيراً ما أدى نقص المواد الأساسية كالخبز والغاز إلى اصطفاف الناس في طوابير طويلة أمام المخابز ومؤسسات توزيع الغاز المنزلي، زد على ذلك ارتفاع الأسعار ووصولها أحياناً لأسعار خيالية، حيث وصلت كثير من السلع الأخرى إلى خمسة أضعاف سعرها الحقيقي منذ اندلاع النزاع الدامي، والذي أوصل البلاد إلى أزمة اقتصادية حادة، مع خسارة الليرة نحو ثلثي قيمتها وتراجع القدرة الشرائية للسوريين، ونفاذ احتياطات العملة الأجنبية، والتي بدأت تشير بوضوح إلى عجز النظام عن توفير الغذاء.

ولعل من أكثر الظواهر السلبية انتشاراً هذه الأيام، تجارة المواد الغذائية المغشوشة في الأسواق، وإقبال الناس عليها لرخص ثمنها، دون مبالاة بمدى جودتها أو خطورة تناولها صحياً، نظراً لارتفاع تكاليف المعيشة بشكل كبير.

وتُقرّ مصادر رسمية بانتشار ظاهرة الغش خاصة في “اللبنة والطحينة والزيوت ورب البندورة والسمنة واللحوم الحمراء”، مشيرة إلى أنها نظمت عمليات لضبط هذه الحالات وإحالة المخالفين إلى القضاء، ولكن دون نتائج ملموسة، فالكثير من العبوات الغذائية مزورة أو بلا تاريخ صلاحية ولا ملصقات أو حماية ملكية.

وقد ساعد على انتشار الغش وارتفاع أسعار المواد الغذائية، غياب الرقابة التموينية والصحية عن أسواق المدينة. هكذا، تغيب الدولة، بينما جبهات القتال في أطراف المدينة تشتعل، وسواتر الإسمنت والحواجز في الطرقات الرئيسية والفرعية تتناسل.

وقد بات حال المدينة التي لطالما عرفت بأجوائها الساحرة وضجت بأصوات مرتاديها، تشهد في مطاعمها ومقاهيها اليوم ركوداً بالغاً أجبر بعض أصحابها على إغلاق هذه المحال والتوجه إما إلى مهنة أخرى وإما للسفر خارج البلاد.

الطائفية ترسم ملامح المدينة..

من جهة ثانية، أجبرت الحكومة منذ شهرين أصحاب المحال التجارية في كافة أحياء دمشق على طلاء واجهاتها بالعلم السوري النظامي، في خطوة يصفها الناشطون في المعارضة بـ «الاستفزازية»، وعزا هؤلاء قيام النظام بهذا العمل «الغريب»، حسب وصفهم، إلى التمهيد المبكر للانتخابات الرئاسية في سوريا في الثالث من الشهر المُقبل، حيث يريد الأسد إظهار العاصمة على أنها مؤيدة له بشكل كامل، على حد قولهم، وقد كان قبول التجار بهذا الأمر مفروضاً عليهم مخافة الاعتقال أو التصفية الجسدية. 

وعن تكاليف طلي المحال التجارية يقول الناشطون: «تقوم ورشات محافظة دمشق والبلديات بطلي واجهة المحل التجارية دون إذن صاحبه، ويجبرونه على دفع مبلغ يقدر بسبعة آلاف ليرة (ما يقارب 40 دولاراً) كأجرة لهذا العمل، ومن يعلم بالأسعار في سوريا يكتشف أن تكلفة هذا الطلي لا تصل إلى نصف قيمة ما تأخذه البلدية، وبهذا فهم يسرقون من طلي المحل الواحد ما يقارب 3500 ليرة تضاف إلى خزينة الدولة، وبإمكانك تخيل المبلغ النهائي الذي سيجمعونه من آلاف المحال التجارية في دمشق».

أما آخر اختراعات النظام فهو ربط استئجار أي منزل في محافظة دمشق بموافقة أمنية تخضع لسلسلة إهانات من نوع خاص، بعد أن صدرت الشهر الماضي أوامر»أمنية» تمنع منعاً باتاً الموافقة على تأجير منزل أو غرفة في دمشق المدينة دون الحصول مسبقاً على الموافقة الأمنية. ويقتضي ذلك أن يذهب المواطن ويملأ استمارة تفصيلية عن وضعه وعائلته وعمله وتوجهه السياسي، ثم يجري تصديقها من البلدية المعنية في المنطقة المراد السكن فيها، وانتظار أسبوع ريثما تصل الموافقة أو الرفض.

 

وإمعاناً في معاقبة السوريين على حراكهم الذي بدأ سلمياً، قرر جهاز الأمن المعني بهذا الشأن أن لا يمنح أي مواطن قادم من مناطق الاحتجاجات الساخنة الموافقة الأمنية حتى لو كان موالياً! ويزيد من الوضع مأساوية ما تقوم به المكاتب العقارية من تأجير البيوت وفق خريطة طائفية رسم ملامحها ضباط كبار في الأمن السوري.