يقول البعض بأن القصيدة الحديثة، هي قصيدةُ المتحركِ في فضاءِ الوعي حيناً، واللاوعي أحياناً، المتحررةُ من كلِ قالبٍ أو نموذجٍ سابقٍ للبنيةِ اللغوية أو الفكرية، باتجاهِ عوالمَ تتسعُ للتجريبِ والتجريدِ في آن.
والتجريبُ لدى الشاعر عرفات الديك في ديوان "يصطادُ ليلاً"، نشعرُ وكأنه نتيجةٌ وضرورةٌ تبعاً للمونولوج الداخلي الذي يقودُه الشاعر لاستنتاجِ إجاباتٍ تتجاوزُ مفاهيمَ المنتظر من النص، ربما في محاولةٍ منه "أي الشاعر" لتحفيزِ القارئ على العثورِ على إجاباتهِ الخاصة والشخصية.
وأما التجريدُ في نصِ عرفات، إنما هو محاولةٌ حثيثةٌ منه للتأكيدِ على توظيف حاسته البصرية لتصويرِ الأشياء من حوله، الطبيعة، الإنسان، الحيوان، وكل ما تلتقطه العين من مشاهد، فتجده يحاكي الحيوانَ أحياناً، ويتمثلُ دوره مراتٍ أخرى، وهكذا وصولاً إلى فكرةِ الفحصِ متناهي الدقة، ليس لاستخراجِ الصورة كما هي، ولكن لتشكيلها بطريقتهِ وأسلوبهِ هو.
إذن نحن في حضرة شاعر يمارس فعل التعري من كل شيء، من العادات، والتقاليد، من حكم الساسة، والمجتمع، من الأنا في ذاتيتها المقيتة، والـ نحن في جنونها المستهلك لكل صدى في الفراغ أو الشعار. هو شاعر اجتهد في قراءة يومياته العادية جداً، بعين استثنائية لا تعرف التقليد، أو استنساخ ما يراه الآخرون، سواء ارتبط الأمر بأنسنة الأشياء، أو بتوغلٍ اقترب حد أن تحل محل الإنسان أو بديله المقترح في زمن بات لا يعترف إلا بالقوة في كل شيء، المال، التكنولوجيا، وحتى في الرواية وما تحمله من أكاذيب.
خلال النصِّ نجدُ الشاعر متمثلاً دورَ الصياد يبدأُ بوضعِ مفتاحِ دخولهِ الأول بالقول:
غزالةٌ تلو أخرى سوف يُطلقُها الصيادُ من بندقيتهِ كلما أخطأ التصويب.
وما هي إلا وهلةٌ صغيرةٌ في "وعاءِ الماءِ، والزمانِ الدائري" حسب إدعائه، حتى يتخذَ الشاعرُ الصياد، دور الضحية مقترحاً:
كانت عتمةً حين اندفعنا/ والحقُّ أنني لم أكن أسرع إخوتي في عبورِ المجرى/ لكنني كنتُ أكثرهم حظاً/ في النجاةِ من الموت/ وأقلَّهم حظاً في النجاةِ من الحياة.
في طريق "عرفات" المحدق في كل الأشياء من حوله، نستشعرُ ضبابية الحالة، حالة الشاعر التي هي حالةٌ عامة، في ظل انسداد الكثير من الآفاق، الأمل، الحلم، الغد إلى ما لا نهاية من مشاهد الالتباس الاجتماعية والسياسية على حد سواء. فهو كما الآخرين لم يعد يعرف إن كان بعادياته اليومية يُصلي، أم يتلاشي، فنجدهُ يقول:
يمسك الرمل بوجهي ويدي/ هل أصلي؟!/أم أتلاشى؟!/لا أعرف.
ورغم صعوبة أوضاع البلاد وما تمر به من حال سياسي واجتماعي، يُصرُ عرفات أن يحاكي، بقصدية تبدو واضحة، أحلامَ اليقظة بنبوءة تخرجه لربما من ذلك الجسد الذي يحرس ضوء النهار، لينام الجسد ونهاره وليله على عشب عينيه، وفي العشب، ترميز إلى الأمل في الإنتاج أو الفعل، إن صح التأويل، فنسمعه يناجي بلاده الحبيبة، أو الحبيبة بما تحمل من معنى للبلاد قائلاً:
يا لها من نبوءة/ جسدك الذي يحرس ضوء النهار/ تحرسه الآن فكرتي/ وعلى فخرٍ صرتُ أقول، لي وظيفة/ أخرج بها من صفوف العاطلين عن العمل.
لينهي هذه النبوءة بمشهد درامي، يغير فيه موقعه من الأشياء، فيجعل من البلاد تلك الحبيبة النائمة، ومن نفسه ذلك الملاك الحارس الحالم إذ يقول:
أنا الآن مُلكُ انتصاري بالتقاط الرسالة/ ومُلك تجربتي في القراءة/ أنا الآن، أنت النائمة على عشبِ عيني.
ويستمر الديك بلا كلل أو ملل، في طرح مقاربات تدفع القارئ للنظر ملياً حتى في أفعال اللغة، علها تتحول يوماً إلى أفعال بشرية، فنجده يقول:
يئنُّ الخيالُ/ يظنُّ المسافرُ في المضارعِ/ أن الطريق تضيقُ/ أنّ الحذاء يصيرُ أثقلَ/ أن الرماحَ على الجانبين، مصوَّبةٌ نحو نحر السكينة.
ليصل في خاتمة النص للقول: يحنُّ الخيال/ يرى المسافرُ في المضارع/ أنّ الطريقَ وسيعٌ، لولا لعنةُ العينين!
لعنةُ العينين هذه لا ولن توقف حُلم الشاعر الإنسان، أو الإنسان الشاعر في ممارسة حقه في الحياة بكل أوجاعها، وآمالها، مؤكداً أنه هو أصل الحكاية. هنا يتحدث عرفات الإنسان، الفلاح، الراعي البسيط، بلسانِ حاله، وحال أهله وشعبه قائلاً:
أنا الراعي، ولي البلاد/ تحملني إلى غدها/ لي الريح، تعقصني خيطاً من الضوء على جيدها/ لي الوقت، يدوخني حول بؤبؤ عينها، ويهديني المدى/ لي انكساراتي كلها، واشتهاءاتي كلها، وما تبقيه نظرة الذئب من وجعٍ على عنقِ الغزال.
هكذا اجتهد الشاعر الرعوي عرفات الديك في محاولته اصطياد الليل بكل مجازاته في قانون الطبيعة، كما في قانون الإنسان ووضعه سواء كان يلعب دور الصياد أو الضحية، بوصفهما وجهان لاقتراح واحد، هو اقتراحُ الحياة.