هذي هي باختصار، المقولة التي ترسّخها بعض الحلول ضيّقة الأفق المطروحة في معالجة مأساة الوالدية لدينا.
أن تعترف بأزمتك، هو نصف الطريق إلى الحلّ، وأن تشخّص المرض، بعضُ عتبة الدرب للدواء، فكيف يمكن أن نعالج كارثةً إنسانيةً إذ ننكر جوهر حقيقتها؟!
علينا أن نعترف أنّ مجتمعنا يعاني من أزمةٍ عميقةٍ في فهم الوالدية، وفي التعاطي مع تنشئة الأطفال وكُنه الإنسان.
حين يلتصق أحدهم بهاتفه ولا ينساه للحظة، ويرعى بيته وسيارته وممتلكاته، بينما نفقد كل يوم أطفالًا ضحايا سواء من المنسيين في السيارات أو ضحايا حوادث السقوط والدهس والاحتراق المنزلي وسواها، فهذا يعني أننا أمام أهالٍ غير مدركين لدورهم في حماية الأطفال من المخاطر. قد يبدو الأمر جزءًا أساسيًّا من ثقافة الموت المترسخة فينا، إذ نستهين بالحياة ونحيل كلّ الحوادث إلى القضاء والقدر، لكنه بلا ريبٍ مرتبطٌ وثيقًا بالإهمال وعدم وعي مسؤوليات الوالدين. حين يصمّم أحدهم منزلًا ضخمًا لا ينقصه البذخ بينما يفتقر لمكان آمنٍ للعب الأطفال، حين يتواجد الطفل لساعات دون بالغ يرافقه ويهتمّ بسلامته، حين يضطرّ طفل في الثالثة للعودة من روضته وحيدًا بلا مرافق سيرًا بين السيارات.. فهذا يعني أنّ مجتمعنا متورّط في جريمة تربوية. وبعيدًا عن التعاطف، علينا الصراخ في وجه هؤلاء: لا تنجبوا قبل أن تدركوا أدواركم الأساسية..
رغم التحوّلات الديناميكية في المنظومة الأسريّة، والتغيرات البيئية الحياتية، ما زال معظم الأهالي يتعاطون مع التنشئة كأمرٍ مفهوم ضمنًا، يحدث بعفوية وتلقائية فطرية، حتى نشأ لدينا جيلٌ مهمَلٌ جسديًّا ونفسيًّا. ولعلّ أهل الاختصاص يلاحظون كون معظم حالات العنف المتزايد، والإعاقات النفسية واللغوية والتطورية، ناجمةٌ عن أمراضٍ عاطفية عميقة، أبرزها عدم إحساس الطفل بوجوده وكينونته. وأعمى من لا يدرك أن لا تحرّر ولا ارتقاء لأيّ مجتمع دون ارتقاء مكانة الفرد فيه، وتحديدًا الأطفال اللذين يمثلون المستقبل الممكن.
قبل سنوات وفي مبادرةٍ لإنقاذ الأطفال في بعض البلدات، ممن تقبع أمهاتهم في البيوت كل اليوم ليقضوا هم وقتهم في الطرقات، وجد المسؤولون حلًّا بتبنّي مشروع إبقائهم في المؤسسات التعليمية حتى الرابعة مساء. ما جرى أن الطفل صار يعود لبيته لينام وحسب، بعد أن قضى يومه كالسجين، بينما وجدت الأمهات المهملات فرصة لتعزيز إهمالهنّ . ملايين هُدرت على زيادة الشرخ الأسريّ وتوسيعه، لو أنها بُذلت لتوسيع مدارك الأهل لحمينا جيلًا من التفسّخ. والآن مع تكرار مآسي نسيان الأطفال في السيارات جاءت الحلول باختراع أجهزة تذكّر الوالدين بطفلهما المنسيّ قبل مغادرة السيارة، أو رسائل هاتفية تذكّرهم بالسؤال عن أطفالهم. منذ الآن لن يتألم ضمير أب أو أم لنسيان طفلهما وتركه للموت، فالتكنولوجيا ستتحمل المسؤولية وعطل الجهاز سيكون الجاني.
هذه "الحلول" ليست سوى تجذير للكارثة الحقيقية إذ توطّد المرض الأصلي الكامن في والديةٍ لا يدركها من ينجبون للكون أبناءً يعجزون عن رعايتهم. كان أجدى لو تخصًّص هذه الميزانيات والطاقات لتعليمهم الوالدية وإلزامهم بالارتقاء نحو مسؤولياتهم. فبناء الإنسان لا يتأتى بتركه كالمزروعات "البعل" غير المرويّة، ولا يكتمل بالتلقائية والعشوائية. كي تبني من يواجه تحديات العصر، عليك أن تكون متمكنًا من ذلك أوّلًا.
كل يوم تتجلى حاجتنا إلى قانون يلزم المقبلين على الزواج باستكمالات ودراسات، ثمّ اختبارات لأهليتهم لذلك. قد يبدو الأمر مبالغةً، بيد أنّ ما نشهد من فراغ أسمى القيم من معانيها هو أكثر مبالغةً من أي احتمال. لا يمكن أن نظلّ نفكر بحلول تجعل الوالدين أكثر إهمالا وبؤسًا وضحالةً. ربما يلزمنا مشروع قانون يجبرهم بتعلم الوالدية وإدراك أسس تنشئة الطفل، بل ويعاقبهم بسحب أبنائهم من حضانتهم إن لم يحافظوا عليهم، وقد تنوب المؤسسات المجتمعية في تطوير بعض المشاريع التوعويّة، لكن الحقيقة التي لا يمكن لنا أن نعمي أنفسنا عنها هي أننا أمام جيل من الأهالي "التائهين" الذين لا يملكون أدنى فكرة عن المنظومة التربوية والأسرية ودورها في تشكيل وجه إنسانيتنا الحاضر والقادم. وما دامت الحلول المطروحة لا تعالج المرض جذريًّا بل ترسّخه وتعززه، فليس لنا سوى توقّع كوارث جديدة، يدفع فيها أطفال ضحايا حياتَهم (جسديًّا أو نفسيًّا)، ثمنًا لوزرٍ لم يرتكبوه، تجلّى في قدومهم إلى بيئةٍ لا تعي قيمة الإنسان.