الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الكتابة كمفهوم مِخبري"مقاربة بيولوجية للنص"

بقلم: محمد قسط/شاعر جزائري

2016-12-20 01:59:00 PM
الكتابة كمفهوم مِخبري
محمد قسط

 

عوملت النصوص منذ نشأة الفلسفة، والأطر النقدية كمجموعة من المشاعر والتصورات التي تتحرك ضمن نطاق لغوي، وعوالم تخيّلة معيّنة، تتحكّم فيها مجموعة من الوسائل والمقاييس العلمية، والتي لم تتجاوز في أقصى  تطوّراتها الخلفيات النفسية والثقافية والتاريخية للكاتب، مستفيدة من المعارف الناتجة عن تقاطع علم النفس بالفلسفة وبالرياضيات في أحيان أخرى، لكن لم نجد مقاربة نقدية تحاول أن تعالج البعد أو الجانب البيولوجي الحيوي لعملية الكتابة. في المقال التالي سأحاول أن أتناول الجانب الوراثي العصبي للنصّ، ضمن معالجة انطباعية، تصلح كمشروع نقدي متخصّص، يمزج علم الأحياء بنشأة النصّ، بالأدب كمعطى بشري مادي وعضوي.

 

كروموزومات النصّ

 

للنصّ مادته الوراثية(الأ.د.ن)، يشكل الكاتب تسلسل قواعد الأزوت فيها، فالنصّ نسيج خلوي يعبّر عن عواملة الوراثية،  فيتجلّى النمط الظاهري للغة والأسلوب، وتشكّل الصور وفق نظام تتضمنه البنية العامة. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتشابه النصوص المستقلة وراثيا ، إلا إذا كرّرنا ترتيب صيغتها، حسب خطّ يراعي النوع، العدد والترتيب، وأي خلل في إحدى شروط التكوين والتشكّل، يؤدي إلى تشوّه المعنى، وارتباك التنظيم الذي وضعه الكاتب بعلمه أو من غير علمه.

 

النصوص الشعرية الكلاسيكية، تم تحديد كروموزوماتها وجيناتها منذ قرون(الأوزان، التفعيلات) فيسهل على كل ناظم أن يتبع نفس الخطّة الوراثية، فينتظم له الشكل وتستقيم البنية، أما النصوص الحديثة التي تحاول أن تقفز عن الخطّة المكرورة، وتُحدث ارتباكا في النوع، العدد والترتيب، تشكل (الا.د.ن) الخاص بها كما تريد. وهذا ما تفعله الهندسة الوراثية من تغير في النصوص النووية للخلايا مما يُنتج أنواع جديدة وسلالات مستحدثة ذات ميزات غير مألوفة،  لم تكن موجودة من قبل. وهذا ما تفعله أيضا قصيدة النثر.

 

استطاعت الهندسة الوراثية أن تحقق حلما قديما للإنسان، وهو مجارات الخالق في خلق أجسام وكائنات تخضع له، وفق بروتوكولات يضعها بنفسه، حيث تحقق رغبته الملحة في السيطرة، والتحرر من قيود الصانع، لذلك ثارت السلطات الأبوية والدينية على أي تعديل في النصّ الالاهي، وحاربته بكل وسائل القمع والحرق والإقصاء، وهذا بالضبط ما حدث مع النصوص الحديثة التي كسرت نمطية الشعر وتكرار قوالبه بأن عدّلت في القالب، بل كسرته، وأعطت الحرية المطلقة للكاتب في أن يشكّل لكل نصّ قالبه الخاص.

 

الجملة العصبيّة للنصّ(لذّة النصّ)

 

النصّ نسيج عصبي تسري بين خلاياه انفعالات الكاتب واختلاجاته، وفق كيميائية نفسية وفكرية، تحدّد معالمه العامة والخاصة، وتأتي نتائج حركة الرسائل العصبية، وإفرازات المشابك المختلفة، بلذّة يجدها القارئ عندما يتلقى المنتوج النهائي لعملية الكتابة.

 

النصّ بين يدي القارئ مجموعة من المثيرات والمنبهات، القادرة على استفزاز جهازه العصبي، الذي يفرز نتيجة لذلك 'الدوبامين'، طبعا إذا كان النصّ جيدًا، فتتحقق اللذّة والمتعة. كما أن الإفرازات العصبية للكاتب، يجب أن تنتقل إلى النصّ، لتشحنه بالطاقة اللازمة للحياة أطول فترة ممكنة، ولما لا أن يحقق النصّ استقلاليته الأبدية، من خلال صناعة جملة عصبية كاملة له، حتى لا يصبح في حاجة لأي محفّز أو محرّض، أي أن يمتلك نظامه الذاتي للتشغيل.

 

الجملة العصبية تنظّم علاقتنا بالوسط والمحيط الذي نعيش فيه، وتُذلّل لنا المصاعب التي نواجها في حياتنا اليومية، تُساعدنا أيضا على التلذّذ بجماليات عديدة، قد نصادفها أو نبتكرها، حتى مشاعرنا الخاصة كالحبّ والكره، تضمن لنا مراكز مخّية حدوثها وتحقّقها. كذلك يفعل النصّ المُكتمل عصبيّا، يصنع لنا حياة موازية، يمكن أن نستمتع بها ولو افتراضيا، لكنّها تُحدث تغيّرا في كيميائية المخِّ والأعصاب. عكس النصوص الرديئة فهي غير قادرة على تغيير كهربائية الأعصاب، أي لا يمكنها أن تبلغ عتبة توليد التنبيه/اللذة، كما أنها إذا أحدثت تنبيها، فهي تحفّز المراكز العصبيّة المسؤولة عن مشاعر الانزعاج والقلق...

 

عمليّة الكتابة تحتاج إلى مراكز عصبية وألياف ناقلة ومُبلّغات كيميائية. تحتاج إلى كل خليّة عصبيّة في النظام، وهذا يتطلب التنسيق بين كل الأجزاء العضوية والمتداخلة، مما ينجم عنه بعد مدّة طويلة، واحتراقات متكررة، أعراض توازي أعراض مرض الباركنسون أو الزهايمر، مما قد يعني انتهاء الكاتب شعريّا أو سرديّا.