لفت انتباهي وانا اتصفح جريدة الحدث تقرير نشر بعنوان "الشهداء مستقلون ورايات الفصائل في جنازاتهم لا تمثلهم" بتاريخ 25-12-2016 والتي اشارت الى نتائج دراسة أعدها مركز القدس لدراسات الشأن الفلسطيني والإسرائيلي، تظهر وكما أوضح علاء الريماوي بصفته مديرا للمركز، أن أكثر من 60% من شهداء الهبة الشعبية الحالية، كانوا من فئة المستقلين.
وهو امر يبرهن ليس فقط الملحوظ الحسي، بل وعبر الإحصاءات الرقمية أيضا، ظاهرة تراجع ادوار الحركات والأحزاب السياسية في تحريك الفعل النضالي وتحديد شكله ومكانه وزمانه، وتراجع قدرتها على استقطاب الشارع الفلسطيني بشكل عام وفئة الشباب بشكل خاص وانا إذ أشارك الريماوي الرأي الى اننا لا نزال بحاجة الى التنظيمات خصوصا لما تحمله هذه الحركات من موروث ثقافي وأيديولوجي وفكري ونضالي عميق ترسخ بفعل مفكرين ومناضلين جرح منهم من جرح، ووقع منهم في الأسر من وقع وخاض جولات التحقيق القاسية وصمد في اقبيتها صمود الأبطال وهم يحملون الأمل بالحرية والانعتاق من الأسر، فيما سقط آخرون وهم يدافعون عن الفكرة، فكرة الحرية وعدالة القضية ورفض الظلم والتهجير والشتات وخيام اللجوء.
هنا لا اريد ان أبدو رومانسيا في وصف الحركات والتنظيمات الفلسطينية ودورها، فكلنا يعرف تاريخها الناصع والمحفز لدعمها واحتضانها والرغبة في الانتماء اليها، وكلنا نلمس وندرك أيضا تراجعها الحالي لأسباب ذاتيه وأخرى عديده موضوعية يتقدمها ملاحقة الاحتلال وقمعه، وتقييد السلطة لها، إلا ان الانفضاض من حولها اتى ربما لعوامل عديدة أهمها التخبط في الإداء السياسي وغياب الاستراتيجية الموحدة للفعل النضالي وتراجع دور منظمة التحرير لحساب تقدم دور السلطة الفلسطينية واستئثار البعض في الحكم والسيادة والقيادة، وتغولهم في إنكار الآخر وفرض رؤيتهم على مكونات الشعب الفلسطيني وتشكل لطبقة حاكمة لها مصالحها التي تبلورت عبر سنين أوسلو التي لم تنتهي ويبدو انها لن تنتهي قريبا بحيث أصبحت مصالحها تتناقض ولا تتناسق مع مصالح الشعب واولوياته ورغم كل ذلك بقيت تتربع على سدة قيادة وحكم هذه الحركات والفصائل، وساهمت في حرف بوصلة نضالها عن تحقيق الهدف الأسمى باتجاه معارك جانبية هامشية عاثت فسادا في بنية النضال الفلسطيني وانسجام مكوناته المجتمعية التي تعتبر حاضنا أساسيا من حواضن العمل الثوري والنضالي الأمر الذي اثر ليس فقط على سمعة الحركات والأحزاب والفصائل بل تعداها ليطال سمعة الموروث النضالي للقضية برمتها.
من جانب آخر، لا يمكن التغاضي عن أثر ما يجري في المحيط الإقليمي على تشكيل وصياغة حالة الوعي الفلسطيني للقضية الفلسطينية او لقضايا الإقليم بشكل عام في ظل المفهوم المتغير والمتأثر بمجريات المنطقة، ويبدو ان عدم الاتفاق الداخلي على تعريف وتحديد معسكر الأصدقاء من معسكر الأعداء ادخل الساحة الفلسطينية بمزيد من التناقض والتناحر، وأصبح الفلسطينيون منقسمون في مواقفهم مما يجري في المحيط، علما ان كل حركة او حزب يعتمد في أدبياته على العلاقة الديمغرافية والجغرافية والجيوسياسية مع المحيط ولم تساهم سهولة الوصول الى المعلومة إيجابا في بلورة وعي حقيقي مبني على معلومات موثقة معروفة المصدر والهدف، ما ساهم في تشكيل حالة من سطحية الوعي "الوهمي والافتراضي" للقضايا زادت من حالة التوهان لدى البعض، وهذه الحالة "قلصت خطأ" من الدور التوعوي والتربوي والتثقيفي للحركات والأحزاب والتنظيمات، واصبح السياسيون يلبسون عباءة التحليل السياسي بدل التنظير الحزبي القادر على المساهمة في بلورة خطاب منسجم فكريا وعقائديا مع الحالة النضالية، وأصبحت لغة الخطاب تعتريها الدبلوماسية في التعبير عن الذات الفكرية والسياسية وحتى المجتمعي كون كل شيء بات محسوبا ومنسوبا لقائلة وليس للحزب منبع الفكر وحاضنته ومصدرته.
إن تراجع دور التنظيمات الفلسطينية بعد انتفاضة الأقصى، أمر يدعو إلى القلق، ولكن ما يؤسس لقلق أكبر هو المبالغة من ذوي مصالح في إظهار سلبيات هذه التنظيمات والتغاضي عن دورها مما يؤسس للابتعاد عنها خصوصا بين فئات الشباب وإظهار كل الحزبيين والقيادات، وكأنها استغلالية وكاذبه وتعمل لنفسها، وفي أحسن صورها تعمل لحزبها لا لوطنها، إن هذا السعي والمبالغة في وصم الحراك السياسي الحزبي والتنظيمي على انه عبثي يخدم غرض وهدف إطالة امد الاحتلال وعدم تنظيم الفعل الفلسطيني القادر على التغيير، والقضاء على الحالة الجمعية للشعب الفلسطيني وتعزيز فردية العمل.
مما لا شك فيه ان للحراك المنظم دور مهم في مواجهة الاحتلال، لما له من علاقة طردية بين نتائج وأثر العمل المقاوم واستمراره المنظم وبين نضوج الحالة التنظيمية للجماهير عبر فصائل عمل وطني واعية وقادرة عل استثماره سياسيا حين يحين الوقت. وكلما بقيت الحالة السائدة فردية وغير منظمة ستبقى سهلة السيطرة عليها وستغيب إمكانية تطويرها والارتقاء بها وتأجيجها وخرط المزيد من الجماهير بها وتحقيق الأهداف بشكل أسرع.
الأحزاب والحركات والفصائل الفلسطينية مطالبة اليوم إعادة النظر في أوضاعها الداخلية وإعادة هيكلة نفسها والارتقاء بأوضاعها لإماطة اللثام عن مكنونها الثوري من جديد والقضاء على السلبيات عبر مراجعات نقدية ذاتية تعيد الاعتبار للنضال الحقيقي واسسه وادواته ومتطلباته، خصوصا بناء الفرد القادر على التفكير والاستنباط وتمتين القناعات بالحق الفلسطيني المشروع في النضال بكل السبل والوسائل التي كفلها القانون الدولي لشعب تحت الاحتلال، وبغير ذلك ستصبح هامشية وصورية وستفتح المجال لا محالة لنشوء أحزاب وحركات وقيادات جذرية لن تستطيع هي ذاتها الوقوف امامها.