الحدث- علاء صبيحات
شروق الشمس يقترب، صارت الأمور أكثر تعقيدا، فآخر ما يريده شخص بهذا المقام، أن تُلغى "الطلعة"، والأصعب تجاوزَه مع كلِّ خطوة نحو الأمام، باتجاه العمل، هو ينسى تدريجيا، همّ توديع طفليه فكفاح كباقي المهاجرين، من الوطن الى الوطن، مع فارق بسيط أن الرحلة ثلثاها موت محقق، سيعبر ككل مرة، وسيشعر بنفس الدغدة الخاصة بسلم الصعود وحبل الهبوط.
ينبثق الجدار الأفعواني لائحا في الأفق، لاينظر كفاح أو أيا من العمال، صوب الجدار، بل يتفقدون نواحيه شمالا وجنوبا، أملا أن لا يكون هناك جنود مستفيقون، فيكون الصعود معقدا، والهبوط أعقد، فقد حدث مرات عدة، كمائن وقت الهبوط فيسقط المعظم إما عن الجدار أو بين أيدي الجنود.
كانت الأمور مستتبة، بدأ صعود السلم الخشبي المهترئ، ليتلقف الصاعد حبله ذاهبا نحو الأسفل، في مغامرة الجنون جزء كبير منها، هناك يشعر الإنسان أن قلبه لن يجد مكانا للهروب من صدره، لتمسُّك صاحبه بسلم الصعود وحبل الهبوط، لهذا فقلبه يحاول الخروج من رأسه لشدة الخوف،فهناك لا شجعان ولا شجاعة على شفير الموت.
كلنا نخشى الموت، أو الوقوع في الأسر، أو حتى الوقوع والإصابة بالكسور والكدمات لهذا فلا شجاعة هنا، الشجاع هو من يعبر الطريق ركضا، نحول الجبل الأول فالثاني وربما الثالث، لينتظر قدوم الناقل الاسرائيلي، ليحمله هذا في أغلب الأحوال، لكنّ هذه المرة كان الكمين أسفل الجبل.
لاحقهم الجنود المدججين، بالشِّباك والرصاص المطاطي، وقنابل الغاز، وكل حقد أهل الأرض، من جبل إلى جبل، قبض على بعض منهم وهرب الآخرون من ضمنهم كفاح، نحو مكان غير معلوم، وبقوا على اتصال مع الناقلين، حتى تم اللقاء في مرآب مستشفى المقاصد، لعلها المنطقة الأأمن، بحيث لن يتم كشفهم ولا اعتقالهم، لذا هم الآن في آخر مراحل الصعوبة.
لاهثون، مغبرّون، متعرقون، تبدأ مشاداتهم الكلامية مع الناقالين، فكل طرف يريد أن يفرض جُلّ شروطه على الآخر، فكل ناقل يريد أن يحشر العدد الأكبر في سيارته، ال”GMC” أو ال”FORD” ، ليحصل على ربح أكبر لقاء مغامرته التي سيسجن اذا ما قبض عليه بسببها بضع أشهر الى عامين أو أكثر قليلا، وكل عامل يريد أن يريح جسده ولو قليلا في الطريق، الناقل يريد أن يحمل من أربعين إلى خمسة وأربعين راكبا، في كل نقلة، هناك من قبل بهذه الشروط، وهناك من اعترض، وهدد الناقل بعدم دفع ما تبقى من أجرة النقل، واستشاظ غضبا، من أسلوب الاستغلال الهمجي الذي يستغل فيه الناقل عمال الضفة.
كفاح لم يرضى الركوب في سيارة الأربعين، بل حدد شرطه بأربعة وعشرين راكبا، نظرا لعناد كفاح وتطرفه وعيناه الجاحظتين في رأسه، لم يكن للناقل رأي فقد أجمع من اتفق مع كفاح، وهم اربعة وعشرون راكبا، على أن لا يصعدوا الحافلة مع غيرهم، وهنا فرض الشرط الخاص بكفاح، الذي هو نصر مهزوم، تخيل أنك ستسافر، مع أربعة وعشرين شخصا، من القدس إلى تل أبييب، ما لا يقل عن ثلاث ساعات سفر، تجلس على رجل أحدهم وأحدهم يجلس في حضنك، مع قيادة جنونية، والتفافات تفوق الخيال، في سيارة تتسع لسبعة أشخاص!، كل هذا وأكثر.
معضلة الرجوع
صوت محرِّك السيارة يثير الرعب، لا يوجد أبدا ما يساعد على التمسك، الجاذبية هي الشيء الوحيد الذي يتحكم بسكّان السيارة، تحملهم يمينا ويسارا، للأمام، وترتطم أجسادهم للخلف، في بدن السيارة دون أن ينبسّ أحدهم ببنت شفّة، معتادون على "الرالي" الرهيب، الذي من الوارد جدا أن يفقد السائق سيطرته على السيارة فيه، لينتهي الأمر بمأساة قلما سمعنا عنها.
يسأل أحدهم كفاح، أين تعمل؟، يجيبه كفاح في تل أبيب، بيت حتكفا، يضيف السائل وسط أحاديث جانبية كثيرة، أي منطقة؟، يجيب كفاح متثاقلا، "بن اليعزر شيفع"، يقول السائل حارة المتدينين؟!، يجيب كفاح غاضبا:" الله يعمّر بيتك سيبك مني"، عم الهدوء أجواء هذا الكوكب المكتظ، كان يعلم كفاح أنه يعمل بمنطقة مشتعلة، خطرة بحدّ ذاتها، لكنه لايريد التفكير بالأمر.
وأخيرا حطت الرحال، في منطقة العمل، حيث يعمل في مبنى، وينام فيه ذاته، دخل مكان نومه الذي لا يتعدى كونه فراشا مهانا، وألواح خشبية تشبه سرير النوم، الهدف منها، أن ترفع الفرشة عن مستوى مياه الأمطار، التي لا بد لها أن تعبر إلى الداخل، غرفة مُعدمة الشمس، مغلّقة النوافذ، ذات ضوء انارة خافت، ليست للنوم أبدا، لكنه لا ينام إلا هنا.
وبعد ليلة استمرت بلا نوم حتى الثامنة صباحا، مضطر كفاح للنوم قليلا، ليعمل غدا، فقد قطع مسافة أبعد من القمر، وأقرب إلى الموت، ليضل ها هنا، ليكدح ويشقى مكملا الجزء القادم من حياته، حرفا حرفا، لكنه وصل في بداية يوم العمل على غير العادة، لذا فقد همّ للعمل، أملا أن يكسب يوما او نصف يوم إضافيا.
تمضي الأيام، ويزداد التعب، ليعشش الروتين، في دماغ كفاح، مفكرا بعد شهرين إلا قليل، أن يعود لزيارة جنّته، وهناك تتزاحم أفكاره، تارة يشد الهمة ويعقد عزمه للعودة، وأخرى يحبط كليا، إن ما يشجعه للعودة هو اشتياقه لأطفاله وزوجته، ومنزله، لكنه يتكدر حينما يتذكر أن عليه العودة الى مكانه الحالي، بنفس الطريقة، التي جاء فيها المرات السابقة التي لا تحصى.
غريب هو ذلك الشعور، حينما يكون هناك ما يجعلك تفكّر بجدية، أن لا تعود لرؤية أطفالك بإرادتك، ليس هناك ما يمنعك إلّا كرهك لمعاودة الكرة، تتلاطم مشاعره داخله، كما كانت تتلاطم ليلة السفر إلى العمل، وهو يرتشف قهوته مغلوبا على أمره.
وفي نهاية المطاف كما في كل مرة يعود فيها لبيته، حسم أمره، وأعد العدّة، وفي قلبه شعور غامض ممزوج بين الفرح والغصّة، الفرح بقرب اللقاء، والغصّة من معاودة الكرّة، بنفس الهم، والطريقة، لكن في النهاية على "لوتس" أن تبتسم ابتسامتها الخامسة، كل هذا وأكثر.