تتميز هذه الأيام في مشرقنا العربي بتتابع الأحداث وتتاليها، وخاصة بعد الرياح الهوجاء التي عصفت بهذه المنطقة منذ العام 2011 فيما كان يدعى بالربيع العربي، قبل أن نجعله ـ نحن ـ بأيدينا خريفاً!
وتتابع الأحداث يرافقه بالضرورة ارتفاع في وتيرة عمل وسائل الإعلام، المحلي والدولي، وذلك لنقل الأخبار من خلال المقاطع المرئية والنصوص المسموعة والمطبوعة، وكلما ارتفع مؤشر الأحداث هنا أو هناك ترتفع معها حمى التعليقات والتحليلات في وسائل الإعلام هذه، حتى يصاب المواطن الذي يتابعهابالصداع !
ووسائل الإعلام بشكل عام، من الصعب أن تكون بريئة، أي موضوعية، بنسبة تامة في نقلها للأحداث، على الأقل لأن القائمين عليها هم من البشر، ولا شك أن الفكر أو الهوى يجنح بهم ذات اليمين أو ذات الشمال أثناء نقل الأحداث أو تحليلها أو التعليق عليها، ومع هذا فإن المراقب لوسائل الإعلام يمكنه بسهولة أن يقسمها إلى قسمين : القسم الأول، وسائل الإعلام الموجودة في الدول المتقدمة في مجال الديمقراطية، وهذه غالباً ما تكون هي الأقرب إلى الموضوعية، وهي بحكم الواقع تساهم في التأثير على قادة تلك الدول في اتخاذ القرار، والقسم الثاني، وسائل الإعلام المتواجدة في الدول الدكتاتورية، وهي غالباً ما تكون أداة في يد الحاكم وبوقاً له، خوفاً أو طمعاً !
وفي بلادنا العربية التي راودها الأمل في الديمقراطية وحرية التعبير ذات ( ربيع ) نجد وسائل الإعلام ـ هي في الغالب ـ من النوع الثاني، وللأسف الشديد، فقد كانت أول من هبّ للدفاع عن الحاكم، والذي ليس من الضرورة أن يكون هو ( الرئيس )، إذ من الممكن أن يكون الحاكم الفعلي الذي يتقمص صورة الرئيس هو الجيش أو الحزب أو العشيرة، كما كانت وسائل الإعلام هذه آخر من تحدث عن الحراك الشعبي وتململ الجماهير في بداية ذلك ( الربيع ) الذي ساهمت مساهمة ـ لا تشكر عليها ـ في القضاء عليه !
إن هذا النوع من الإعلام، والذي يطلق عليه أحياناً ( إعلام الإفك ) لأنه يحترف الكذب والافتراء والتزوير والتضليل، فيجعل الحق باطلاً، كما يلبس الباطل ثوب الحق، يؤدي دوره من خلال خطة متكاملة تشتمل على نشر ما يريد من الأخبار، ويحوّر ما يريد منها، ويحجب ما يرى أنه يدوس لسيده على طرف، ليس هذا فقط، وإنما يلجأ إلى تركيز الأضواء على أحداث بالتحليلات التي يستنطق فيها بعض المحللين ويستدرجهملتوجيه حديثهم بالطريقة التي يريدها هذا الإعلام، وفي غياب الطرف المقابل حتى لا يعطى فرصة للتعبير عن رأيه، فتكون حلقاته التحليلية والحوارية عبارة عن جلسات ( ردح ) ضد ( الفئة الباغية ) يشارك فيها الضيف والمضيف، على حد سواء، وفي المقابل ترى هذا الإعلام يلقي بظلال التجاهل على أحداث أخرى، ويجعلها بعيدة عن أن يتناولها الخبراء والمختصون بالتحليل والتأويل .
وإعلام الإفك لا يقتصر على الإعلام الرسمي، أو الإعلام المدافع عن الحاكم فقط، بل يشمل هذا الوصف الإعلام المهاجم له أحياناً، فإن الكثير من وسائل الإعلام التي تمتلكها ( المعارضة ) أو الأطراف المتعاطفة والمتحالفة معها، تسير على نفس النهج، وتعمل بموجب ذات الخطة، ولكن بالاتجاه المغاير، ولذلك ليس من العجب أن تشاهد صورة مؤلمة أو مقطع فيديو يُدمي القلب على وسيلة إعلام معارضة أو حليفة للمعارضة وهي تقول : انظروا ماذا يقعل النظام الدموي، وأن تشاهد الصورة نفسها أو المقطع المرئي ذاته على وسيلة إعلام تابعة للنظام وهي تقول : انظروا ماذا تفعل الجماعات المجرمة!
ومما يزيد الطين بلة في مجتمعاتنا العربية، وغيرها، أن العاقل والجاهل أصبحت له وسيلة إعلامه الخاصة، ألا وهي وسائل التفاعل المجتمعي ( التواصل الاجتماعي )، فتراه يتلقف الصورة التي تعجبه أو المشهد الذي يروق له، ويعيد نشره على صفحته الخاصة أو على الموقع الذي يديره أو المدونة التي يحررها، وهو غالباً ما يكون منقولاً من إحدى وسائل الإعلام التي تفرض سيطرتها على السّاحة الجماهيرية، بما تمتلكه من عناصر القوة، كما تفرض الجماعة المسلحة النظامية أو المعارضة سيطرتها في ميدان القتال .
فماذا نحن فاعلون في مثل هذا الواقع يا ترى ؟ وما هو المطلوب منا ؟
أرى أن المطلوب منا نحن الجماهير العربية هو أن نعمل بمسارين :
المسار الأول، هو أن نتخيّر من وسائل الإعلام ما يمكن أن نتوقع في عملها قسطاً جيداً من الموضوعية، لتكون مصدر أخبارنا ومعلوماتنا، وأن نشجعها على تطوير نهجها الموضوعي في تناول الأحداث، لأنها بهذا النهج تقدم الخدمة الكبرى للجماهير، فالجماهير ما يهمها هو الحقيقة، لتوجه بوصلتها بناء عليها، وبالحقيقة أيضاً تردّ وسائل الإعلام الحاكم والمعارض إلى جادة الصواب، إذا أوشك أي منهما على تجاوزها، كما ترشد كلاً منهما ولو بشكل غير مباشر إلى النهج القويم والطريق المستقيم .
أما المسار الثاني، فهو أن نمعن النظر والتفكير في كل ما يصدر عن وسائل الإعلام ( المتحاربة )، حتى تلك التي تروق لنا متابعتها لأننا نتعاطف معها فكرياً أو سياسياً، ما دام الواحد منا حريصاً على معرفة الحقيقة، فالتعاطف أساسه العاطفة، والعاطفة دون تحكيم العقل كثيراً ما تقود المرء إلى الضلال . وهذا ما يوجب علينا أن نتمثل الحديث الذي يقول : (استفتِ قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك )، وهو المعنى الذي عبر عنه الشاعر بقوله :
أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ، فكلّ عقلٍ نبي !
سلمت عقولكم .