إعداد: جميل عليان
في رواية جديدة، تناولت موضوعا قد يكون الأول في الأدب العربي الحديث، يؤرخ روائي فلسطيني بمهارة وبسرد أدبي يضع الحقائق في سياق بنيوي روائي مدهش لانهيار وطن المجانين في الأرض المقدسة، تزامنا مع وطن أناسه من العقلاء ، ولكنه يتقلص هو أيضا.
في روايته (مجانين بيت لحم)، استحضر كاتب الرواية أسامة العيسة، عبر أمواج تعلو وتهبط من الحقائق الدرامية التاريخ، والجغرافيا، والحكايات الغرائبية، عن قادة، وسياسيين، وأدباء، ومدعي نبوة، ولاعبين معروفين ومجهولين، في روايته الثالثة التي صدرت مؤخرا في العاصمة اللبنانية بيروت، لتشكل حلقة جديدة من مشروعه الروائي الذي يستلهم فيه الواقع الفلسطيني، ضمن فضاءات واقعية وتاريخية وغرائبية.
والرواية هي ثلاث محاولات لكتابة رواية، يقدمها الروائي، في محاولة للإلمام بعالم المجانين، الذي يقدمه على أنه غير منفصل عن عالم العقلاء، مستحضرا روح المجنون عُجيل المقدسي (توفي عام 406هـ)، الذي يستمع الناس إلى حكمه، وشطحاته الصوفية.
وكما يبدو أن روحه تناسخت في البطل الرئيس للرواية، إذا جاز الحديث عن بطولة في عالم مجنون، كهذا الذي يعصف بالأراضي المقدسة وأهلها منذ قرون.
وخلال المحاولات الثلاث، لكتابة رواية، هناك اعترافات من الروائي للقراء، من خشيته، بعدم النجاح، وذلك لجعل القارئ متيقظا، ومساهما في صناعة العمل. وفي نهاية العمل، يعترف الروائي، بأنه تجنب سرد حكايات بعض المجانين، خشية البطش من عالم العقلاء.
وكما هو ديدن الروائي في رواياته السابقة، تبدو الرواية في جانب مهم منها، رصداً للتغيرات التي عصفت بالمكان، وبعوامل محلية، وإقليمية ودولية. وفي رواياته السابقة ظهر الروائي يدافع بقوة عن أفكار الشهود على العصر الذي يحاكمه في رواياته بكل جرأة.
يقول العيسة: “الدفاع عن وطن المجانين المجازي، هو دفاع، عن الشذرات التي تبقت من الوطن الأكبر. عندما لا يجد المجانين وطنا في وطنهم، فإن هذا يعني أنه لا وطن أيضا للعقلاء”. والمجانين يصيغون سيرة المكان بكفاحهم، كما يظهر في الرواية، ولكنهم يكافؤون بانقضاض العقلاء عليهم.
“لقد حاولت ان أُقدم حكايتنا بدون أية بهارج، أو بطولات زائفة، أو اتهامات مرسلة، وهي مهمة ليست سهلة”، قال الروائي.
قدمت دار نوفل الرواية: “تبشيرٌ ألماني رائد، وطموح إمبراطورٍ مغامر، قدَحا شرارة الدهيشة، وطن مجانين فلسطين منذ الانتداب البريطاني. لاحقًا، سيتمّ الاعتداء على ذلك الحيّز، في ظروف سياسية جديدة، وضعت المجانين ووطنهم على المحكّ. تحكي 'مجانين بيت لحم’ عن وطن المجانين الفعلي، وناسه”.
“هي ترمز إلى الوطن الذي يتآكل تحت وطأة التغيّرات السياسية التي تعصف به. تقتحم موضوعا يكاد يكون بِكرا في الأدب العربي الحديث، وتقدّم الفلسطينيين كما هم، بشرا، من دون نبرة خطابية ولا مناجاة غنائية. رواية جديدة ليس فقط في موضوعها، ولكن أيضا في اقتراحها شكلا يناسب المضمون”.
وقال الروائي ربعي المدهون عنها: “رواية تتخلى فيها شهرزاد عن دورها لسارد مسكون بالحكاية الشعبية والتراث، يقلب ألف كتاب وكتاب، باحثا عن كل ما هو مدهش ليقدم هذا العمل المختلف، عن شخصيات تنمو وتتطور في فضاء يتشكل من واقع متخيل وخيال واقعي”.
وتذهب الرواية إلى تفكيك مذهل لنسيج عالم يصغر مع مرور الوقت، مع ظهور أقوى للقوى السياسية العالمية، التي كانت فاعلة في صلب الوضع الفلسطيني، لدى إقامة وطن المجانين.
يتساءل الروائي من هم المجانين، ومن هم العقلاء، في بلاد تُسرق فيه الأوطان الصغيرة والكبيرة؟
وقال الروائي: “اشتغلت في هذه الرواية على الشكل، لإيماني، بأنه لا يجب على الكاتب اأن يكتب روايته مرتين، والمقصود بنفس الشكل، وحاولت أن أجعل من القارئ متلقيا فاعلا، وليس سلبيا، بفتح حوار معه، وكشف بعض أسرار اللعبة الفنية. أظن بوجود علاقة جدلية بين الشكل والمضمون، في النهاية كل مضمون يختار شكله الذي يناسبه، وإذا لم يفعل، فإن بوادر الفشل ستلوح، من المهم أن نقدم رؤانا الأدبية في أشكال تناسبها”.
ووطن المجانين، هو الاسم ذاته للمصطلح الشعبي المتداول مستشفى المجانين، أو الاسم العلمي، مستشفى الأمراض العقلية، وهو واحد من مستشفيات قليلة مشابهة أقيمت في بعض المدن العربية الرئيسة في بدايات القرن المنصرم.
يقول العيسة: «العنوان يعود إلى وطن مجانين فلسطين، منذ أكثر من قرن، وهو المستشفى الوحيدة للأمراض النفسية في فلسطين التي كانت تستقبل المرضى من مختلف الأديان، في حين كانت هناك مستشفى صغيرة، في القدس الغربية، لا تقبل إلا مجانين اليهود».
ولا يبعد مكان المشفى عن مكان سكن الروائي، في مخيم الدهيشة، لذلك يبدو الروائي يعيش روايته كل يوم، أو يطل عليها من شرفة منزله على أطراف مخيم الدهيشة.
تقع هذه المستشفى في منطقة الدهيشة في مدينة بيت لحم، وبعد نحو نصف قرن من إنشائها، نشأ بالقرب منها مخيم الدهيشة للاجئين الذين شردوا من قراهم في مناطق القدس، وبيت لحم، والخليل، والهضاب المنخفضة، في مرحلة جنون جديدة تتعرض لها الأراضي المقدسة.
يقول العيسة: «ارتبط تأسيس المستشفى بتقاطعات علاقات الامبراطورية العثمانية مع قوة دولية مؤثرة، مثل ألمانيا في عهد الإمبراطور غليوم، الذي افتتح المبنى الذي شيد على قطعة أرض ضخمة، شهد المبنى على حربين عالميتين، وحروب إقليمية ومحلية، وكان، مثل وطن «العقلاء»، عرضة للتغيرات الدراماتيكية التي عصفت بالجميع. في ظروف سياسية جديدة، تقلص وطن العقلاء، بفعل الاستيطان والإجراءات الاحتلالية، ما أدى إلى تقليص وطن المجانين، بسبب زحف «العقلاء» نحوه.
هل هناك أي رابط في الرواية بين البعدين الديني التاريخي والمجانين؟
يقول العيسة: «بالطبع، في الواقع إن معظم الأنبياء، والقادة الاستثنائيين، والقديسين، اتهموا في فترات تاريخية، بإصابتهم بمس من الجنون». قبل مجانين بيت لحم كتب العيسة روايته «المسكوبية»، التي روت بشجاعة مبنية على تجربة ذاتيه، مرارة ذلك المكان، وأيضا ارتبطت الروايتان ببيت لحم وأطرافها المقدسة بشكل ما.
يقول العيسة: «الرواية هي استكمال لمشروعي عن تقديم بيت لحم، كمكان روائي، وهو ما بدأته في (قبلة بيت لحم الأخيرة) تخبرنا المدونات التاريخية، عن نظرة كل مجتمع تجاه الجنون، لدينا تراث عربي زاخر يقدم الجنون بصورة غير تلك الموجودة لدى العامة في عصرنا».
بالنسبة للعيسة يظهر الجنون في روايته الجديدة ككناية عن الاستتار، كما فهمه العرب، ويكون ذلك خشية أو خوفا من بطش ما.
«لذا قد لا يكون المثل السائر (خذوا الحكمة من أفواه المجانين) مجرد قول عابر (...)، المجانين لديهم قدرة دائما على إثارة الدهشة، دهشة العقلاء، وإن كان من غير المحبب بالنسبة لي الفصل بين عالمي المجانين والعقلاء، فهو عالم متداخل أكثر مما نتوقع، كما يمكن للقارئ أن يجد في روايتي». قال الروائي الذي كتب من قبل نص عن خاله المجنون الذي هو فصل من الرواية.
الراوي في (مجانين بيت لحم) اعتمد على أوراق تركها خاله المجنون الذي قضى انتحارا، والذي أنقذ الأوراق مجنون آخر، ويستنتج الروائي بأن الخال لا يمكن أن يكون مجنونا لأنه انتحر، والانتحار يحتاج إلى قرار.
بيت لحم في فكر الروائي، وكما يراها أمام عينيه أيضا هي مدينة المجانين والأنبياء، مدينة السلام التي لم تحظ به، المدينة التي يقدسها الملايين، ولكنهم تركوها بلا قدسية تواجه مصائرها بنفسها.
« كم مرة هُدمت؟ وكم مرة سبيت نساؤها؟ كم نبي ومجنون طورد وقتل فيها؟» يتساءل الروائي؛ لذلك تختلط في الرواية الحقائق، بالغرائبي، بشخوص واقعية، عندما انكب العيسة على دراستها وجد أن سلوكها كما يقال يفوق بغرابته الواقع.
وهو أيضا الذي إذا نظر إلى الدهيشة-بيت لحم، كمكان، وجده وكأنه رواية الدنيا، أنماط عمرانية من مختلف البلدان، سياسيون ورجال دين، ومجانين من مختلف القوميات والأديان والإثنيات، تمردات وثورات، خلال قرن من الزمن شهدت عصور: الإمبراطورية العثمانية، والبريطانية، ثم سلطة مصرية، فسلطة اردنية، فاحتلال إسرائيلي كولنيالي، وسلطة وطنية فلسطينية.
وهو يريد أن يقول: «لك أن تتخيل تأثير كل هذا على مكان صغير، دارت فيها وحوله المعارك، وسار فيه فاتحون، وغزاة، ودركيون، وصحافيون، وجواسيس، وعلماء آثار، أي وطن هذا هو وطن المجانين؟».
« وأيضا لنا أن نتساءل عن تأثيره على كل الذين مروا به، في الرواية نجد تأثيرا لا مراء فيه، يسميها الروائي (لوثة الدهيشة) التي أصابت أباطرة ورؤساء ومدعي نبوة»