قرار مجلس الأمن الأخير حول وقف جميع الأنشطة الاستيطانية ووصفه إياها بأنها لا شرعية ولا قانونية، وأنها تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الدولي؛ أخرج إسرائيل عن طورها، فقد اتهمت حكومة نتنياهو الرئيس باراك أوباما بمعاداة السامية، وشنت حملة غير مسبوقة ضد إدارته، التي قدمت لإسرائيل أكثر مما قدمته أي إدارة سابقة، لا لشيء سوى محاولة منها لإنقاذ إسرائيل من نفسها ومن تطرفها. وقامت إسرائيل إثر القرار بوقف مساهماتها المالية للمؤسسة الدولية، وهددت الدول التي قدمت القرار لمجلس الأمن وجمدت العلاقات معها، إضافة إلى قطع العلاقات السياسية والمدنية مع قادة السلطة. كما أعلنت أنها لن تلتزم بالقرار مؤكدة ذلك بخطط جديدة لإقامة 5600 وحدة استيطانية.
وتبارى المسؤولون الإسرائيليون في التنافس حول الخطوات المتطرفة التي يتوجب على إسرائيل اتخاذها ردًا على هذا القرار بين من يطالب بضم مستوطنة "معاليه أدوميم"، وآخر يطالب بضم كل الكتل الاستيطانية، وثالث بضم مناطق (ج)، ورابع بنقل المقرات الحكومية الإسرائيلية المتواجدة في تل أبيب للقدس لتحذو الدول الأخرى حذوها، وخصوصًا إدارة دونالد ترامب لتمضي بتنفيذ تعهدها الذي أكدته بعد القرار بنقل السفارة الأميركية إلى القدس.
لا يمكن فهم ردة الفعل الإسرائيلية إلا بإدراك أن حكومة نتنياهو فُوجِئت وصُدِمت بالقرار، الذي يدل على استمرار سحر القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي، فهي كانت تستعد لقطف ثمار الوضع الإستراتيجي المثالي الجديد الناجم عن استمرار وتعمق الانقسام الفلسطيني، وتحول "فتح" بصورة أكبر إلى حزب للسلطة، وتزايد الخلافات بين صفوفها، وغرق "حماس" في أزمات السلطة في غزة وترميم علاقاتها المتردية العربية والإقليمية، وبعد فتح آفاق مرحلة أمامها لقيام تحالف عربي إسرائيلي ضد إيران والإرهاب، لدرجة أصبحت تسير حثيثًا نحو ما تطلق عليه حلًا إقليميًا مع العرب على حساب الفلسطينيين، وفِي ظل مجيء إدارة أميركية تشير الكثير من المؤشرات إلى أنها ستكون أكثر دعمًا لإسرائيل من أي إدارة أميركية سابقة، لدرجة أنها تعتبر الاستيطان ليس عقبة أمام السلام، عدا عن أنها عينت سفيرًا أميركيًا داعمًا مباشرًا للاستيطان وضد حل الدولتين.
في هذا الوقت بالذات، أتى قرار مجلس الأمن ليوجه صفعه قوية لإسرائيل، مفادها أن العالم كله يقول إن الاستيطان غير شرعي، لا سيما أن القرار تضمن تقديم تقرير كل ثلاثة أشهر لمجلس الأمن حول مدى تنفيذه، مما يعطي الفلسطينيين فرصة عملية للمتابعة، إضافة إلى تمييزه بين إسرائيل والأراضي المحتلة العام 1967، ويدين جميع التدابير الرامية إلى تغيير التركيبة الديمغرافية في الأراضي المحتلة، بما في ذلك بناء وتوسيع المستوطنات ونقل المستوطنين الإسرائيليين، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل، وتشريد المدنيين الفلسطينيين، وهذا أمر له قيمة سياسية وقانونية وأخلاقية كبيرة يمكن للفسطينيين أن يحسنوا الاستفادة منها من خلال ملاحقة إسرائيل في كافة المؤسسات الدولية وتعزيز المقاطعة، الفلسطينية والعربية والدولية، لها، أو إضاعة الفرصة كما فعلوا بقرارات سابقة، أهمها الفتوى القانونية لمحكمة لاهاي التي كانت ولا تزال بوصفها كنزًا قانونيًا وسياسيًا يتم إهداره بدلًا من الاستفادة منه.
بالغت القيادة الفلسطينية كثيرًا في أهمية القرار واعتبرته منعطفًا تاريخيًا وتحولًا في الموقف الأميركي، وهذا سيحدّ من إمكانية توظيفه في المعركة الممتدة ضد المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني ورأس حربته الاستعمار الاستيطاني في الضفة الفلسطينية المحتلة، الذي يجب التركيز على مواجهته باعتباره الخطر الداهم، وتجاهلت أنه ضمن البند السادس، أي لا يملك قوة تنفيذ. كما أن الرئيس الأميركي القادم تعهد بأن يكون له موقف مغاير من القرار بعد استلامه مهامه في العشرين من الشهر القادم، ما يعني أنه لن يلتزم به وسيحث دولًا أخرى على عدم تنفيذه، ولكن مع الإشارة إلى أن هذا لن يكون أمرًا سهلًا عليه.
ولم يشر القرار إلى الدولة الفلسطينية المعترف بها دوليًا، وساوى بين الضحية والجلاد عند الحديث عن الإرهاب والتحريض وقتل المدنيين، مقابل إشارته إلى التنسيق الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين وإلى استمرار المرحلة الانتقالية. وحسنًا أنه لم يتضمن أي إشارة لمبدأ تبادل الأراضي الذي وافق عليه المفاوض الفلسطيني وظل يكرر موافقته عليه باستمرار رغم أنه مبدأ يعطي شرعية للاستيطان.
إن من أهم الدوافع التي أدت إلى امتناع إدارة أوباما عن التصويت حرصها على عدم إغلاق الباب نهائيًا على ما يسمى "حل الدولتين" الذي وصل إلى طريق مسدود، الأمر الذي يهدد باعتماد الفلسطينيين لخيارات أخرى بديلة عن خيار المفاوضات الثنائية والرهان على الولايات المتحدة.
كما اختارت القيادة الفلسطينية، كما صرح الرئيس محمود عباس، العمل على استئناف المفاوضات بعد القرار، مما ينذر بإعادة إنتاج ما سمي "عملية سلام" التي أوصلتنا إلى الكارثة التي نعيشها، وهذا يعني إهدار القرار وتحويله من شيء جيد إلى شيء سيئ، بينما إسرائيل تحاول العكس من خلال تحويله من أمر ضار إلى نافع، من خلال توسيع الاستيطان والمضي في مخططات الضم، وتشجيع إدارة ترامب بتنفيذ تعهداتها بنقل السفارة، والقضاء على حل الدولتين، والدعوة إلى مفاوضات من دون تدخل دولي، ما يشق الطريق لتنفيذ الحل الإسرائيلي، وليس إلى التوصل إلى حل متفق عليه.
من المهم أخذ العبر من كيفية التعامل مع القرارات الدولية السابقة المؤيدة للفلسطينيين أو المتضمنة للحد الأدنى من حقوقهم، من خلال عدم متابعتها كما حصل سابقًا، والانتقال من قرار إلى آخر، بينما يتم تخفيض السقف الفلسطيني باستمرار من قرار التقسيم 194 إلى قرار 242 إلى اتفاق أوسلو والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود وغيرها من التنازلات، وتأجيل طرحها كما حصل مع القرار الأخير الذي كان من المفترض أن يعرض على مجلس الأمن منذ شهور طويلة، إضافة إلى تأجيل "تقرير غولدستون"، وعدم تفعيل الانضمام الفلسطيني للمؤسسات الدولية، خصوصا محكمة الجنايات الدولية، وعدم اتخاذ القرارات السياسية والقانونية ومختلف الإجراءات المترتبة على حصول الفلسطينيين على اعتراف دولي بدولتهم كعضو مراقب، حيث استمرت السياسات بعد هذا القرار مثلما كانت قبله.
يستوجب هذا القرار الصادر عن مجلس الأمن حتى يمكن استثماره لصالح القضية الفلسطينية أولًا وقبل أي شيء آخر رفض العودة إلى مفاوضات ثنائية بغطاء دولي أو من دون غطاء، لذا يجب رفض لقاء أبو مازن مع نتنياهو وفقًا للمبادرة الفرنسية أو الروسية أو المصرية أو من أي جهة أتت ما لم تكن جزءًا من مقاربة جديدة تقوم على أساس إعطاء الأولوية لتغيير موازين القوى على الأرض وجعل الاحتلال مكلفًا لإسرائيل ومن يدعمها، واعتراف والتزام إسرائيل بالحقوق الوطنية الفلسطينية المتضمنة في القانون الدولي والقرارات الدولية، بحيث يكون التفاوض ضمن إطار دولي مستمر وفاعل وكامل الصلاحيات، ويستهدف تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وليس التفاوض حولها، وهذا يعني أننا أمام مواجهة مقبلة طويلة مع إسرائيل يجب الاستعداد لخوضها بجدارة حتى نفرض عليها الاعتراف بحقوقنا، وليس أمام حل قريب وإقامة دولة خلال العام القادم كما وعد الرئيس، وهذا وهم جديد يجب الإقلاع عنه قبل أن يسبب المزيد من الأضرار.
وثانيًا، يستوجب هذا القرار ترتيب البيت الفلسطيني من خلال بذل كل ما هو ممكن لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، والعمل على عقد مجلس وطني توحيدي بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، حتى تكون المنظمة قولًا وفعلًا الممثل الشرعي والإطار الوطني الجامع، الذي يعمل ضمن رؤية وطنية شاملة ينبثق عنها إستراتيجية موحدة قادرة على الانتصار.
أمر أخير أختم به هذا المقال، مع رفض الموقف المصري الذي سحب مشروع القرار من دون تشاور مع الفلسطينيين والعرب، إلا أن على القيادة الفلسطينية أن تبذل كل ما تستطيعه ولا تستطيعه لتصحيح العلاقات الفلسطينية - المصرية والفلسطينية – العربية، خصوصًا مع دول اللجنة الرباعية العربية، لأن البعد العربي للقضية الفلسطينية مهم جدًا، ومن دونه لا يمكن أن تبقى حية.