الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"الثَّقافَةُ الرَّخْوَة، وتوَقُّعاتٍ عظيمةٍ في أَوقاتٍ عَصِيبة "/ رائد دحبور

2017-01-01 10:25:25 PM
رائد دحبور

 

كما يقولُ المَثَلُ: إنَّ كثرةَ الشَّدِ تُرْخي المفاصِلْ.. وكما هو الحالُ مع التَّوقُّعاتِ العظيمة الَّتي في حالِ لَمْ تَتَحَقَّق تُؤدِّي إلى إحباطاتٍ عميقةٍ كبيرة، وتَدْفَعُنا إلى العيْشِ ظلِّ ضغوطِ أوقاتٍ عصيبة؛ فكذلكِ هو أمرُ المنظومات الثَّقافيَّة – والبُنى الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة - عندما تَتَشَنَّجُ وتَتَوَتَّرُ في قوسِ الآيديولوجيا التَّاريخيَّة، مَدْفوعَةً بتوقُّعاتٍ عظيمةٍ على أُسُسٍ غير واقعيَّة من التَّقديرِ المبالَغِ به للذَّاتِ وصولاً إلى جملَةٍ من النُّبوءَاتِ والتَّنَبُّؤات. وكلُّ ذلك في الحقيقَةِ يؤدِّي على عكسِ ما هو مُتَصَوَّر إلى إنتاجِ ثقافاتٍ رخوةٍ هَشَّةٍ مُرْتَبِكَةٍ مُنْفَصِمَةٍ مُنْقَسِمَةٍ على ذاتِها تناحُرِيَّاً.

 

إنَّ سلامةَ وصِحَّةَ المنظوماتِ والبُنَى الثَّقافيَّة إذْ تؤدِّي دورها في الحياة – ونقصد بذلك طريقة تلقِّي المعرفة والتَّفاعل مع معطياتِها واستخدامِها وإعادة إنتاج المعرفة وتوظيفها في واقِعٍ مُلائم - وانسجام تلك المنظومات والبُنى وتَماسُكِها واتِّساقَها وتجانُسِها وفاعِلِيَّتِها وهادِفِيَّتها ليستْ مَنُوطَةً بانبِثاق تلك المنظومات والبُنى من الأيديولوجيا – العقائد - المُفْعَمة بالتَّاريخ، واحتكامِها الصَّارِمِ لها بحيث تُراعي تلك المنظومات والبُنى كلَّ شروط وعناصر تلك الآيديولوجيا كضابِطٍ تفصيليٍّ؛ كَيْمَا تصمد في مواجهة التَّحديات الزَّمنيَّة والمكانيَّة والظَّرْفيَّة. هذه حقيقة تؤكِّدُها وقائع تأثير الاتِّجاهات والتَّيارات الثَّقافيَّة والفكريَّة ذات اللَّون والاتِّجاه الأيديولوجي الواحد، وما أفضَتْ إليه تجاربها من نتائج عبر مساحاتٍ مكانيَّة مُتَنَوِّعة ومحطَّاتٍ تاريخيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ لدى مُجْتَمَعاتٍ عديدة.. تجربةُ الاتِّحاد السُّوفييتي وتجربةِ الاتِّحاد اليوغسلافي وألبانيا مثالاً، وتجربة القوميَّة العربيَّة والأصوليَّة الإسلاميَّة وما سُمِّيَ بالرَّبيع العربي مثالاً آخر. والأمثلَةُ عديدة.

 

" توقِّعاتٌ عظيمة أو كبيرة " هو عنوانُ روايةٍ للرِّوائِيِّ الإنجليزي " تشارلز ديكينز " كتبها عام 1860 وَنُشِرتْ كامِلَةً عام 1861 وكذلك هو أمرُ " أوقاتٌ عصيبة " فهي لِذاتِ الرِّوائي تشارلز ديكنز كتبها ونُشِرَتْ عام 1852 في الرِّوايةِ الأولى يُعطينا ديكنز فكرةً ومن خلال وقائع روايته ومن خلالِ شخصيَّةِ الآنِسَةِ " هافيشام " والصَّبِيِّ اليتيم " بيب " عن أثَرِ الإحباطِ الَّذي يتأتَّى من وراءِ إخفاقِ تَحقُّقِ التَّوقُّعاتِ الكبيرة؛ فالآنِسَة " هافيشام " تَسْتَدْعي الصَّبي الفقير اليتيم " بيب " كي يَلْعَبَ في بيتِها الكئيب مع فتاةٍ صغيرةٍ تُدْعى " أسْتِلَّا " تَنْتَسِبُ إلى أسرَةٍ عريقةٍ ثريَّة تقومُ الآنِسَةُ على تربِيَتِها، وتَهْدِفُ من وراءِ ذلك أنْ يَقومَ هذانِ الصَّغيرانِ بإيناسِ وحدَتِها، بعدَ أنْ خَذَلَها من كانتْ تُحِبُّ بِجنونٍ وترَكَها وهي ترتدي ثوبَ الزَّفاف في يومِ زفافَهُما؛ فأصْبَحَتْ امرأةً غريبَةَ الأطوار تتوقَّعُ عودةَ خطيبها في كلِّ وقتٍ؛ لذا فهي ترتدي فستان الزَّفافِ في بيتها على الدَّوام حتَّى بعدَ سنواتٍ طويلةٍ مرَّتْ على غيابِ حبيبها وهي تواصِلُ ارتداءَ ثوبِ الزَّفاف حتَّى بعدَ أنْ جاوَزَتْ سِنَّ الثّمانين من عمرها، وهي تُوْقِفُ عَقرَبَ ساعةَ الحائطِ في بيتِها عند السَّاعةِ والدَّقيقةِ الَّتي غادَرَها بها عريسها، وكذلك تُوْقِفُ التَّاريخ عند ذلك اليومِ فلا تُضيفُ له يوماً آخر !!. حَتَّى أنَّ ذلك الأمرُ يكادُ يَنْسَحِبُ على الصَّبِيِّ " بيب " الَّذي يقضي عمره فيما بعد يحلُمُ بالزَّواجِ من تلك الفتاة الصَّغيرة " أسْتِلَّا " الَّتي تنتمي لأسرَةٍ أروستقراطيَّة والتي كان يلعب معها في بيت الآنسة " هافيشام " مِمَّا يَتَسَبَّبُ له بإحباطاتٍ عديدة في شبابِه.

 

في الرِّواية الثَّانية لـ " ديكنز " بعنوانِ أوقات عصيبة أو أزمنة صعبة، وهي رواية على خلافِ رواياتِ ديكنز التي في العادة تدورُ أحداثها في لندن أو في أحد المقاطعات البريطانيَّة؛ فإنَّ أحداث رواية أوقات عصيبة تدور في مدينَةٍ خياليَّةٍ صناعيَّةٍ تُدْعى " كوكْتاوْن " في عهدِ ثَوْرَةٍ صِّناعيَّة. ويعطينا ديكنز في هذه الرِّواية كيف تَدْفَعُ بعض المعتقدات الخاطئة، وكذلك التَّمَسُّك الصَّارم المُتَشَنِّج بالمُعَتَقداتِ على نحوٍ مُتَطَرِّف إلى خلقِ أزمنةٍ وظروفٍ عصيبة لمن يقعونَ تحت طائلة السُّلطة التي تتمسك بذلك المنهج من التَّفكير. ففي رواية أوقت عصيبة؛ يُرَبِّي السَّيْد " جرانْد جريد " أطفالَه " توم " و " لويزا " على معتقداتٍ صارِمة وعلى فكرَةِ أنَّ الحياة تقومُ على أعمدَةِ الحقيقة ولذا لا مجالَ لايِّ شيءٍ آخر من لَعِبٍ أو لَهْوٍ أو تسْلِيَةٍ أو أحلام، وأنّض ليسَ فيها مُتَّسَعٌ للعواطف الإنسانيَّة، وعندما يُغافِلَهُ طِفلاهُ ويذهبانِ إلى حضورِ السِّيرك يقومُ بمُعاقَبَتِهما، ويشرَعُ بالبحثِ عن صاحب السِّيرك ويقضي وقتاً في البحثِ عنه؛ لمعاقَبَتِةِ على إفسادِ طِفْلَيه، وعندما يعثُرُ على مكانه يَجِدْهُ قد غادَرَ المدينةَ بعدَ أنْ فقدَ جاذبيَّتَهُ أمام الجمهورِ كمُهرِّجٍ، ويجِدُ ابنَة المُهرِّج " سيسيليا " تعيشُ في وضعٍ مُزْرٍ بعد أنْ غادَرَها والِدُها، فتنفَجِرُ لديه العاطفة الإنسانيَّة ويأخُذُها إلى منزلِه لتربيَتِها مع أبنائِه.

 

لكنَّ مُعتَقَداتِ السَّيِّد " جرانْد جريد " تَدْفَعْهُ إلى تزويجِ ابنَتِهِ " لويزا " من صديقِه المَصْرِفِيِّ الثَّرِيِّ " براوْندْ بايْ " لأنَّه يحمِلُ نفسَ مُعتَقداتِه حول الحياة برغم أنَّ صديقه المصرفيّ يَكْبُرُ ابنته سيسيليا بِعشراتِ السَّنوات.. ويتحوَّلُ ابنه " توم " فيما بعد إلى لِصٍّ نتيجة الظُّروف النَّفسيَّة الصَّعبة التي يعيشها في ظلِّ تطرُّف معتقدات والده حول الحياة والمال.. في النِّهايَةِ ونتيجة الصُّعوبات الَّتي خلَقها السَّيِد " جراند " لأبنائه ولمن هم تحت سلطته يعترفُ بخطأ معتقداته وبخطأ سلوكه في تربية أبنائه، وخطأ توقُّع نتيجةً إيجابيَّة من وراءِ استخدام وسائل قاسية صعبة سلبيَّة في معالجة شؤون الحياة، ويعترف بأهميَّة المشاعر والعواطف الإنسانيَّة كبديلٍ عن فَرْضِ القناعاتِ العقائديَّة على الآخرين.