كما يقولُ المَثَلُ: فإنَّ كثرةَ الشَّدِ تُرْخي المفاصِلْ.. وكما هو الحالُ مع التَّوقُّعاتِ العظيمة والَّتي في حالِ لَمْ تَتَحَقَّق تُؤدِّي إلى إحباطاتٍ عميقةٍ كبيرة، وتَدْفَعُنا إلى العيْشِ ظلِّ ضغوطِ أوقاتٍ عصيبة فكذلكِ هو أمرُ المنظومات الثَّقافيَّة والبُنى الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة؛ عندما تَتَشَنَّجُ وتَتَوَتَّرُ في قوسِ الآيديولوجيا التَّاريخيَّة، مَدْفوعَةً بتوقُّعاتٍ عظيمةٍ على أُسُسٍ غير واقعيَّة من التَّقديرِ المبالَغِ به للذَّاتِ وصولاً إلى جملَةٍ من النُّبوءَاتِ والتَّنَبُّؤات. وكلُّ ذلك في الحقيقَةِ يؤدِّي وعلى عكسِ ما هو مُتَصَوَّر إلى إنتاجِ ثقافاتٍ رخوةٍ هَشَّةٍ مُرْتَبِكَةٍ مُنْفَصِمَةٍ مُنْقَسِمَةٍ على ذاتِها تناحُرِيَّاً وغير قادرة على الأداء أخلاقيَّاً وعمليِّاً.
إنَّ سلامةَ وصِحَّةَ المنظوماتِ والهياكل والتَّيَّارات الثَّقافيَّة إذْ تؤدِّي دورها في الحياة ليستْ مَنُوطَةً بالضَّرورة من شرطِ انبِثاق تلك المنظومات والبُنى من الأيديولوجيا – أو العقائد - المُفْعَمة بالتَّاريخ أو الدِّين أو الجِنْسانيَّة العرقيَّة، واحتكامِها الصَّارِمِ لها بحيث تُراعي تلك المنظومات والبُنى كلَّ شروط وعناصر تلك الآيديولوجيا كضابِطٍ تفصيليٍّ لحرَكَتِها وأدائِها ؛ اعتقاداً من أصحابِها أنَّ ذلك هو من يُوَفِّرُ لها البقاء والقدرة والصُّمود في مواجهة التَّحديات الَّتي تفرِضُها مُتغَيِّرات الزَّمان والمكان والظَّرف، وكذلك ما تفرِضه التَّحديات والشروط الأخلاقيَّة أثناء أداء تلك الثَّقافات لمَهَّامِّها وهذا هو الأمرُ الأَهَمّ – إنَّنا نقصِدُ بالمنظومات والهياكل والتَّيارات الثَّقافيَّة ذلك المنهج وتلك الطَّريقة الَّتي يتِمُّ بها تلقِّي المعرفة والتَّفاعل مع معطياتِها واستخدامِها وإعادة إنتاج المعرفة وتوظيفها في واقِعٍ مُلائم ضمن معايير أخلاقيَّة إنسانيَّة؛ وبما يَتَأَتَّى عن كلُّ ذلك من عوامل وعناصر قوَّة وقد أُسيءَ استخدامها في الغالب، وفي المقابل ما ينتج عنها من عوامل وعناصر ضعف وترَهُّل وتفَكُّك وقد كانت باديَةً في غير مكانٍ وزمان.
أثبَتَتْ التَّجربة أنَّ انبثاق تلك المنظومات والتَّيَّارت الثَّقافيَّة على قاعِدَةِ الآيديولوجيا لَمْ يُوَفِّرْ لها ما كانت ترجوه من فاعلِيَّة ديناميكيَّة دائمة ولمْ يُحقِّق لها أهدافها أيَّاً كان موقفنا من تلك الأهداف، ولَمْ يَحُلْ دون إغراقها في الفوضى الأخلاقيَّة والسُّلوكيَّة والأدائيَّة كما كان يتصوَّر أصحابها والمتحمِّسين لها.
وهذه حقيقة تؤكِّدُها وقائع تجارب الأحزاب والحركات والاتِّجاهات والتَّيارات الثَّقافيَّة والفكريَّة ذات الصِّبغة العقائديَّة المُنْغَلِقَةِ على ذاتها حدَّ الجمود والتَّشَنَّج، وقد أفضَتْ تلك التَّجارب إلى إخفاقاتٍ مُدَوِّيةٍ في بلدانٍ ومُجْتَمَعاتٍ عديدة.. تجربةُ الاتِّحاد السُّوفييتي السَّابق وتجربةِ الاتِّحاد اليوغسلافي وألبانيا ومجمل المنظومة الاشتراكيَّة مثالاً، وكذلك تجربة بعض الحركات القوميَّة العربيَّة وتيَّارات القوميَّة والأوروبيَّة في مراحلَ مختلفة مثالاً آخر، وكذلك تجربة الأصوليَّات الإسلاميَّة مؤخَّراً وحتَّى الأصوليَّة المسيحيَّة سابِقاً ولاحِقاً – ابتداءً بأصوليَّة القرون الوسطى في أوروبا وليس انتهاءً بأصوليَّة المحافظين الجدد في الولايات المتَّحِدة الأمريكيَّة مؤخَّراً، وما أفضَتْ إليه تلك الأصوليَّة المسيحيَّة المُختَلِجة عقائديَّاً مع إمبرياليَّة العولَمة من غَزواتٍ في كلٍّ من أفغانستان والعراق، وما أشعلَتْهُ من حرائق وحروب في منطقة الشَّرق الأدنى والأوسط ما زال بعضها قائماً حتَّى الآنْ – وذلك مثالٌ ثالثٌ صارخ، وكذلك تداعيات تجربة ما سُمِّيَ بالرَّبيع العربي مثالاً رابِعاً.. والأمثلَةُ من هذا النَّوع عديدة كثيرة.
هل يمكننا القول إذنْ: أنَّه من الضَّروري التَّمييز بين ثلاثِ أنماطٍ من الثَّقافات، وهذه الأنماط الثَّلاث هي:
الثَّقافة المَرِنَة والثَّقافة المائعة والثَّقافة الرَّخوة – عِوَضاً بطبيعة الحال عن الثَّقافة الجامدة الَّتي تناولناها سابِقاً، والَّتي هي بعكس المرنة تماماً ؟؟.
وهل يمكنُ القول: أنَّ مُحَصِّلَةَ الجمود والانغلاق الثَّقافي وما يفرضانه على مستوى المفاهيم النَّظريَّة والتَّطبيق في الواقِعٍ المُعاش من صعوباتٍ وتناقضاتٍ يقودُ بالتَّالي وفي النِّهاية إمَّا إلى مفاهيم ثقافيَّة مائعة تفتقدُ إلى المعايير الأخلاقيَّة كارتِدادٍ كاملٍ فجٍّ عن واقع تجربة الجمود الفاشلة. أو إلى مفاهيمٍ وتيَّاراتٍ ثقافيَّةٍ رَخْوَةٍ تفتقد إلى الانسجام والتَّماسك، وليس بمقدورها الصُّمود في مواجة التَّحديَّات وإنْ كانت تلك المفاهيم والتَّيارات صائبة وأخلاقيَّة بامتياز، لكنَّ جمودها وعدم مرونَتِها العمليَّة والتَّفاعليَّة مع الواقع ومع غيرها من الثَّقافات قد جعل منها تيَّارات رخوة غير جديرة بالتَّنافس مع الثَّقافات الأخرى الأكثر مرونة، وهي لن يكون لها مكانٌ في عالمٍ تحكمه مفاعيل القوَّة، وتسودُه الثَّقافات والمعايير الأخلاقيَّة الميكافِليَّة المائعة - وهذا بالمناسبة هو حال تيَّارات وحركات ثقافيَّة عروبيَّة ووطنيَّة وحتَّى دينيَّة في واقعنا العربي في غمرة المواجهة الحاصلة مع المشاريع الأجنبيَّة.
فكيفَ لنا أنْ نتوَقَّعَ توقُّعاتٍ عظيمة كبيرة في هذه الأوقات العصيبة، دون أنْ نُغادر واقع الثَّقافات الرَّخوة الَّتي تُجَلَّلُ المشهد الثَّقافي العربي والوعي الجَمْعِي العربي راهِناً بألوانٍ من المفاهيم والأفكار والرُّؤى والمواقف الرَّماديَّة، عِوَضاً عمَّا أفعمته به سابقاً من جمودٍ وتشَنُّج، وَمَزاعِمَ مَعْرِفَةٍ بشروط البقاء ومقتضياته، وبشروط النَّصرِ وأثمانِه ؟!.
والإجابةُ على السُّؤَالَيْنِ الماضِيَيْنِ المُتَعَلِّقَيْنِ بضرورةِ تصنيف الأنماط الثَّقافيَّة وبمحصِّلَةِ الجمود وما يؤدِّي إليه هي بتقديري نعم؛ وهذا ما ينقُلُنا مباشرَةً إلى العنوان الَّذي بدأنا به المقال بحيث نعطي مثالاً من روايَتَيْنِ لتشارلز ديكنز عن ذلك، ويأتي هذا المثال من روايَتَيِّ تشارلز ديكنز اتَّصالاً بما أدَّته الرِّوايةُ من دَوْرٍ - وكمؤسَّسةٍ أدبيةٍ؛ عندما تتراكم - بِحَسَبِ تعبير " ها ري لِفينْ " في تشكيل الوعي على الذَّات وعلى الآخر وعلى الواقع وهكذا كان شأنُها لدى المجتمعات الأوروبيَّة ابتداءً من القرن السَّادس عشر على الأقل وحتَّى الآنْ، خصوصاً عندما تتحوَّل تلك الرِّوايات إلى أعمالٍ سينمائيَّة وتلفزيونيَّة ودراميَّة كبيرة؛ وما أدَّته روايات " ديكنز " تحديداً من دورٍ ثقافيٍّ ووجدانيٍّ في دعم توجُّهات بريطانيا العظمى، حينما كانت كذلك.
" توقِّعاتٌ عظيمة أو كبيرة " إِذَنْ هو عنوانُ روايةٍ للرِّوائِيِّ الإنجليزي " تشارلز ديكينز " كتبها عام 1860 وَنُشِرتْ كامِلَةً عام 1861 وكذلك هو أمرُ " أوقاتٌ عصيبة " فهي لِذاتِ الرِّوائي تشارلز ديكنز كتبها ونُشِرَتْ عام 1852 في الرِّوايةِ الأولى يُعطينا ديكنز فكرةً ومن خلال وقائع روايته ومن خلالِ شخصيَّةِ الآنِسَةِ " هافيشام " والصَّبِيِّ اليتيم " بيب " عن أثَرِ الإحباطِ الَّذي يتأتَّى من وراءِ إخفاقِ تَحقُّقِ التَّوقُّعاتِ الكبيرة؛ فالآنِسَة " هافيشام " تَسْتَدْعي الصَّبي الفقير اليتيم " بيب " كي يَلْعَبَ في بيتِها الكئيب مع فتاةٍ صغيرةٍ تُدْعى " أسْتِلَّا " تَنْتَسِبُ إلى أسرَةٍ عريقةٍ ثريَّة تقومُ الآنِسَةُ على تربِيَتِها، وتَهْدِفُ من وراءِ ذلك أنْ يَقومَ هذانِ الصَّغيرانِ بإيناسِ وحدَتِها، بعدَ أنْ خَذَلَها من كانتْ تُحِبُّ بِجنونٍ وترَكَها وهي ترتدي ثوبَ الزَّفاف في يومِ زفافِهِمَا؛ فأصْبَحَتْ امرأةً غريبَةَ الأطوار تتوقَّعُ عودةَ خطيبها في كلِّ وقتٍ؛ لذا فهي ترتدي فستان الزَّفافِ في بيتها على الدَّوام حتَّى بعدَ سنواتٍ طويلةٍ مرَّتْ على غيابِ حبيبها وهي تواصِلُ ارتداءَ ثوبِ الزَّفاف حتَّى بعدَ أنْ جاوَزَتْ سِنَّ الثّمانين من عمرها، وهي تُوْقِفُ عَقرَبَ ساعةَ الحائطِ في بيتِها عند السَّاعةِ والدَّقيقةِ الَّتي غادَرَها بها عريسها، وكذلك تُوْقِفُ التَّاريخ عند ذلك اليومِ فلا تُضيفُ له يوماً آخر !!. حَتَّى أنَّ ذلك الأمرُ يكادُ يَنْسَحِبُ على الصَّبِيِّ " بيب " الَّذي يقضي عمره فيما بعد يحلُمُ بالزَّواجِ من تلك الفتاة الصَّغيرة " أسْتِلَّا " الَّتي تنتمي لأسرَةٍ أروستقراطيَّة والتي كان يلعب معها في بيت الآنسة " هافيشام " مِمَّا يَتَسَبَّبُ له بإحباطاتٍ عديدة في شبابِه.
في الرِّواية الثَّانية لـ " ديكنز " بعنوانِ أوقات عصيبة أو أزمنة صعبة، وهي رواية على خلافِ رواياتِ ديكنز التي في العادة تدورُ أحداثها في لندن أو في أحد المقاطعات البريطانيَّة؛ فإنَّ أحداث رواية أوقات عصيبة تدور في مدينَةٍ خياليَّةٍ صناعيَّةٍ تُدْعى " كوكْتاوْن " في عهدِ ثَوْرَةٍ صِّناعيَّة. ويعطينا ديكنز في هذه الرِّواية مثالاً عن الكيْفِيَّةِ الَّتي تَدْفَعُ بها بعض المعتقدات الخاطئة، وكذلك التَّمَسُّك الصَّارم المُتَشَنِّج بالمُعَتَقداتِ على نحوٍ مُتَطَرِّف نحو خلقِ أزمنةٍ وظروفٍ عصيبة لمن يقعونَ تحت طائلة السُّلطة التي تتمسك بذلك المنهج من التَّفكير.
ففي رواية أوقت عصيبة؛ يُرَبِّي السَّيْد " جرانْد جريد " أطفالَه " توم " و " لويزا " على معتقداتٍ صارِمة وعلى فكرَةِ أنَّ الحياة تقومُ على أعمدَةِ الحقيقة ولذا لا مجالَ لايِّ شيءٍ آخر من لَعِبٍ أو لَهْوٍ أو تسْلِيَةٍ أو أحلام، وأنّض ليسَ فيها مُتَّسَعٌ للعواطف الإنسانيَّة، وعندما يُغافِلَهُ طِفلاهُ ويذهبانِ إلى حضورِ السِّيرك يقومُ بمُعاقَبَتِهما، ويشرَعُ بالبحثِ عن صاحب السِّيرك ويقضي وقتاً في البحثِ عنه؛ لمعاقَبَتِةِ على إفسادِ طِفْلَيه، وعندما يعثُرُ على مكانه يَجِدْهُ قد غادَرَ المدينةَ بعدَ أنْ فقدَ جاذبيَّتَهُ أمام الجمهورِ كمُهرِّجٍ، ويجِدُ ابنَة المُهرِّج " سيسيليا " تعيشُ في وضعٍ مُزْرٍ بعد أنْ غادَرَها والِدُها، فتنفَجِرُ لديه العاطفة الإنسانيَّة ويأخُذُها إلى منزلِه لتربيَتِها مع أبنائِه.
لكنَّ مُعتَقَداتِ السَّيِّد " جرانْد جريد " تَدْفَعْهُ إلى تزويجِ ابنَتِهِ " لويزا " من صديقِه المَصْرِفِيِّ الثَّرِيِّ " براوْندْ بايْ " لأنَّه يحمِلُ نفسَ مُعتَقداتِه حول الحياة برغم أنَّ صديقه المصرفيّ يَكْبُرُ ابنته سيسيليا بِعشراتِ السَّنوات.. ويتحوَّلُ ابنه " توم " فيما بعد إلى لِصٍّ نتيجة الظُّروف النَّفسيَّة الصَّعبة التي يعيشها في ظلِّ تطرُّف معتقدات والده حول الحياة والمال.. في النِّهايَةِ ونتيجة الصُّعوبات الَّتي خلَقها السَّيِد " جراند " لأبنائه ولمن هم تحت سلطته يعترفُ بخطأ معتقداته وبخطأ سلوكه في تربية أبنائه، وخطأ توقُّع نتيجةً إيجابيَّة من وراءِ استخدام وسائل قاسية صعبة سلبيَّة في معالجة شؤون الحياة، ويعترف بأهميَّة المشاعر والعواطف الإنسانيَّة كبديلٍ عن فَرْضِ القناعاتِ العقائديَّة على الآخرين.